تتويج ملك بريطانيا ... أسئلة الدين والعلمانية
يحتار الإنسان وهو يشاهد عظمة تتويج الملك تشارلز الثالث ملكاً لبريطانيا، وأبّهته وفرادته، بين دولة ليبرالية مدنية ومعلمنة بقوة ودولة تستخدم عبارات دينية في مراسم التتويج: فليبارك الربّ ويحميك... فليجعل نور وجهه يهلّ عليك... فليجعل نوره يمن عليك بالسلام... فليحمك الرب في كلّ دروبك ويجعل كل أعمالك باسمك... استلم هذه الكرة الذهبية وتذكّر أنّ مملكة هذه الأرض هي مملكة الرب ويسوع... استلم هذا الخاتم رمزاً للكرامة وشعاراً للصلة بين الملك والرب والملك والشعب... استلم هذا القفّاز لكي تأمر باسم رحمة الرب وليس باسمك.
على غرار بريطانيا، لا يمكن للرئيس الأميركي أن يُنتخب من دون أن يتكلم عن الله، فالله حاضر في المؤسّسة الرسمية الأميركية: أداء قسم الولاء للبلاد الذي يتضمّن عبارة "أمة واحدة، إله واحد"، عبارة "بالله نؤمن" المكتوبة على الدولار، "ثقتنا في الله" في الأغنية الوطنية، "راية النجوم الساطعة" المعتمدة من الكونغرس نشيداً وطنياً عام 1931.
يمكن أن نرى في بريطانيا والولايات المتحدة موظّفة رسمية ترتدي الحجاب، كما يمكن رؤية فتيات المدارس يرتدينه، لكن هذا غير مسموح به في فرنسا، ولا يمكن لهذه العبارات وهذه السلوكيات أن تكون في الجمهورية اللائكية الفرنسية، لأنها تشكل تهديداً خطيراً للجمهورية وقيمها وللإدماج المدني.
لم يعرف التاريخان، الإنكليزي والأميركي، مؤسسة كنسية ذات سطوة كبيرة كما كان الأمر مع الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا المتحالفة مع الملكية والإقطاع
ما الذي يجعل بريطانيا والولايات المتحدة، وعموم البلدان الأنغلوساكسونية، مختلفة عن النمط الفرنسي؟ على الرغم من أن الولايات المتحدة تشترك مع فرنسا في عملية فصل الدين عن الدولة، وهي سمةٌ غير موجودة في بريطانيا، حيث سمة الوصل بين الدين والدولة قائمة فيها، فإنّ الصيغ الدينية المعتمدة رسمياً في الولايات المتحدة وبريطانيا لا تحيلان إلى دينٍ وطائفة معينة، إنها عبارات دينية عامة يقبل بها كلّ المؤمنين بالله على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم الدينية. ولذلك، تعدّ جزءاً من هوية الأمة التاريخية، ولا تشكّل معياراً للتمييز أو الإقصاء. وليس استخدام العبارات الدينية الرسمية في الولايات المتحدة مؤشّراً على تسييس الدين، وإنما تديين السياسة، أي إنشاء ديانة سياسية توحّد ولا تفرّق بين المواطنين، ناجمة عن توافق ديني ـ بروتستانتي، وأيديولوجي ـ تنويري، وسياسي ـ جمهوري، وقد حالت التعدّدية الدينية ـ السياسية هذه دون نشوء طائفة دينية متفردة، وإن غلبت البروتستانتية على ما عداها في بداية التاريخ الأميركي.
في بريطانيا، حيث الملك رئيس الكنيسة، ولا يزال أسقف كانتربري تعيّنه الحكومة رسمياً باسم الملك، لا يمارس الدين تأثيراً في السياسة، لماذا؟
لم يعرف التاريخان، الإنكليزي والأميركي، مؤسسة كنسية ذات سطوة كبيرة كما كان الأمر مع الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا المتحالفة مع الملكية والإقطاع. ومن هنا لم تنشأ ضرورة تاريخية لمحاربة الدين وإبعاده عن الحيز العام.
عرف التاريخ الإنكليزي صراعاً بشأن الدين ومكانته، لكنه لم يكن دموياً كفرنسا، لسببين: أنه جرى في وقت مبكر خلال القرن الـ 16، حيث لا وجود لدولة مركزية قوية ولا لمؤسسة كهنوتية قوية. ولأنّ الهم الإنكليزي كان محصوراً في المقام الأول بتأكيد هيمنة الدولة على الكنيسة لمواجهة روما، وفي المقام الثاني حول سلطة الملك في مقابل سلطة البرلمان والنبلاء. ومن خصوصية التاريخ الإنكليزي أن الصراع الديني لم ينته إلى معادلة حدّية ينفي طرفٌ الطرف الآخر، بل نشأت تسوية دينية جمعت عناصر من الكاثوليكية والبروتستانتية الكالفينية، وقد لعبت الأرمينينية والسوسنية دوراً في جعل الدين طبيعياً من دون أن يرفضوا الدين ذاته، وفي الدعوة إلى حرية الضمير.
كان التنوير البريطاني متسامحا مع تشكيلة واسعة من الإيمان والإلحاد، فالفضائل الاجتماعية هي محرّك هذا التنوير
ثمّة ارتباط وثيق أكّد عليه مفكّرون كثيرون بين الإحياء الأرمينيني والانتصار اللاحق لنزعة تسامح ديني معقلنة ضمن المذهب الأنغليكاني في آخر عقود القرن الـ 17، بعد الثورة المجيدة، من دون أن ننسى تأثير اللاهوت الميثودي للتبرئة عن طريق الإيمان والأعمال الصالحة، أي جعل الخلاص متاحا للجميع. ولهذا، والكلام لعزمي بشارة، لم يوجد في إنكلترا أثر للعلمنة بالمعنى المتداول كفصل الدين عن الدولة، فضلا عن خصخصة الدين، ما نجده هو صعود لقوة الدولة في الملكية المطلقة التي جمعت السلطة الزمنية إلى الكنيسة، وأعقبتها سلسلة تمايزاتٍ متداخلة، يتداخل فيها الدين مع السياسة في صناعة الهوية الوطنية. وهكذا، كان التنوير البريطاني متسامحا مع تشكيلة واسعة من الإيمان والإلحاد، فالفضائل الاجتماعية هي محرّك هذا التنوير. وبكلمات أوليفييه روا، وجب التمييز بين "دنيوة"، يتحرّر فيها المجتمع من مقدّس لا يرفضه بالضرورة، وعلمانية تقصي فيها الدولة الديني إلى ما وراء الحدود التي رسمتها هي بحكم القانون.
يمكن لبلد أن يكون دنيوياً لكنه ليس علمانياً، لأن لديه ديناً رسمياً (بريطانيا، الدنمارك)، ويمكنه حتى أن يكون علمانياً (مؤكّداً كل التأكيد فصل الكنيسة عن الدولة) مع الاعتراف بالديني في الدائرة السياسية (الولايات المتحدة حيث تثبت المحكمة العليا حديثاً صلاة "تحت نظر الله" التي تتلى في المدارس). والنموذج الأنغلوساكسوني هو النموذج الليبرالي التعدّدي الذي يفهم العلمانية أنها نمط في الحوكمة يهدف إلى إقامة التوازن الأمثل بين الحقّ في المساواة في الاحترام والحقّ في حرية الضمير من الجهة المقابلة، يقول تشارلز تايلور.