في أسباب هجوم المعارضة المسلحة السورية
لم يكن هجوم هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري المعارض على قوات النظام السوري مفاجئا على المستوى الاستراتيجي، وإن كان مفاجئا على مستوى التوقيت.
على مدار الثورة السورية، ثم الحرب الإقليمية والدولية بين عامي 2012 ـ 2018، كانت سورية عنوانا لمتغيرات عسكرية جذرية، وتحالفات إقليمية ودولية معقدة ومتشابكة، يتداخل فيها الحلفاء بالأعداء.. إنها جغرافية عسكرية ذات كثبان رملية متحركة. لكن ما جرى منذ 28 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، يطرح تساؤلين استراتيجيين، يتعلق أولهما بحدود الهجوم العسكري. ويتعلق الثاني، وهو الأهم، بالأسباب الخلفية التي أدّت إلى هذا الهجوم. والإجابة عن السؤال الثاني تحدّد بالضرورة إجابة السؤال الأول.
لا يمكن لفصائل المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام وغيرهما أن يشنّوا مثل هذا الهجوم من دون ضوء أخضر تركي، وقبله ضوء أخضر روسي، ذلك أن روسيا قادرة بكل سهولة ليس على إحباط أي هجوم فحسب، بل على توجيه ضرباتٍ قاصمة لفصائل المعارضة. وما رأيناه وسمعناه خلال الأيام الماضية ليونة روسية إزاء هذا الهجوم، فالضربات العسكرية الروسية كان خفيفة مقارنة بالضربات الروسية قبل عام 2018. كما أن الخطاب السياسي للكرملين حمل رسالة في غاية الأهمية، حين قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن بلاده لا ترى نفسها مسؤولة عن وقف الهجوم. في موقفٍ شكل مفارقة في مشهد سوري معقد ومتشابك، استكملته تركيا بمفارقةٍ أخرى، حين أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية أن هجوم المعارضة يهدّد روح اتفاقات أستانا ويضر بعملها، في انقلابٍ صارخ للأدوار بين موسكو وأنقرة، راعياً التفاهمات العسكرية في الشمال السوري. ... خطابان سياسيان مخالفان للمواقف التقليدية لكل بلد، يشيان بأنهما لا دخل لهما بالعملية العسكرية لفصائل المعارضة.
ما أسباب هذا التحوّل؟ ثمّة أسباب رئيسية عدة: أولا، استياء روسي شديد من النظام السوري وإيران بسبب حرية تحرّك الأخيرة والمليشيات المدعومة منها في سورية خلال العام الماضي، خصوصا عمليات نقل الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، وإعادة تقوية ترسانتها العسكرية في سورية، وهو ما دفع إسرائيل إلى شن أكثر من 250 هجوما على إيران وقواعد عسكرية تابعة للنظام السوري. ولم تكن مصادفة أن يتزامن الهجوم مع إعلان وقف القتال بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، أي أن روسيا أرادت استغلال الضعف العسكري الإيراني لإجبار قواتها على الانسحاب من شمال غربي سورية.
روسيا قادرة بكل سهولة ليس على إحباط أي هجوم فحسب، بل على توجيه ضرباتٍ قاصمة لفصائل المعارضة
ثانياً، استياء روسي من النظام السوري لعرقلة جهود الكرملين في العامين الماضين في إحداث مصالحة بين أنقرة ودمشق، حيث اختار النظام المقاربة الإيرانية بدلاً من الروسية.
ثالثاً، استياء روسي قديم ـ جديد من سياسة النظام الاقتصادية التي أدّت، في أحد جوانبها، إلى انهيار الاقتصاد السوري، وما نجم عنه من استياء في داخل مناطق النظام، تخشى روسيا أن يؤدّي إلى ثورة جديدة تضيع كل ما تم عمله في السنوات الثماني السابقة.
رابعاً، استياء روسي من النظام لعرقلته أي حل سياسي للأزمة، حتى وإن كان حلاً بطيئاً على مدار زمني طويل.
خامساً، حاجة روسيا إلى تركيا في مواجهة الغرب الذي يشنّ هجوماً عسكرياً عليها في أوكرانيا إضافة إلى الحرب الاقتصادية.
من المبكّر الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية لهذا الهجوم، هل ستكون له تبعات سياسية هامة؟ أم مجرّد تقسيم جديد لجغرافيا عسكرية عوّدتنا الحرب السورية على تغيرها بشكل دائم
سادساً، وصول ترامب إلى رئاسة البيت الأبيض، وكأن روسيا تستبق وصوله بإجراء ترتيبات داخل الجغرافيا السورية، تكون خطوة ضمن تفاهمات مستقبلية متوقعة.
في ضوء هذه المعطيات السياسية، يمكن قراءة الهجوم العسكري لفصائل المعارضة وحدوده. ولكن، لا إجابة وافية بشأن حدوده، وإن كان واضحاً أن الضوء الأخضر الروسي سمح للفصائل بتجاوز حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة (محافظة إدلب، أجزاء من أرياف حلب وحماة واللاذقية)، التي جرى التوافق عليها في الجولة السادسة من مسار أستانا في سبتمبر/ أيلول عام 2017، ذلك أن الهجوم وصل إلى مدينة حلب، وهي خارج حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة، فضلا عن انسحاب القوات الروسية من تل رفعت في ريف حلب الشمالي، أي أن هجوم الفصائل سيشمل الريف الشمالي لحلب، بحيث يصبح كامل الشمال الغربي من سورية تحت يد المعارضة المسلحة، وبالتالي تحت الإشراف التركي.
ومن المبكّر الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية لهذا الهجوم، هل ستكون له تبعات سياسية هامة؟ أم مجرّد تقسيم جديد لجغرافيا عسكرية عوّدتنا الحرب السورية على تغيرها بشكل دائم.