بين تبخيس الحكومات وتبخيس الشعوب

27 نوفمبر 2022
+ الخط -

(1)

فيما نتابع تطورات المواجهات الدائرة في إيران بين النظام وشعبه، تستوقفنا بعض تطوّرات تعكسها تصريحات لمسؤولين إيرانيين، لا تبدو متّسقة كلّ الاتساق مع ما تعودنا أن نسمعه من بعض قادتهم، طوال سنواتهم الطويلة في الحكم هناك. أولها تصريح صدر عن وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، عن انتفاضة الإيرانيين المتصاعدة إثر مقتل شابة عشرينية بأيدي شرطة الإرشاد الأخلاقي الإيرانية، ينتقص فيه من تلك الانتفاضة. لكن الوزير آثر أن ينوّه ويذكر، بصورة استفزازية، خلت من الحصافة والدبلوماسية، قائلاً إن بلاده ليست مثل السودان أو ليبيا.

يتصل التطور الثاني باحتجاج السفارة الإيرانية، على ما وصفته بتقاعس الأمن البريطاني عن حماية مقرّها الدبلوماسي في لندن، وهو أمر له خلفيات ينبغي أن تُستعاد.

(2)

يُستنتج من تصريح الوزير الإيراني أنه يتهم، ضمناً، جهات خارجية بتحريض النساء الإيرانيات للانتفاض على النظام القائم في بلاده. ومن حقه، وهو المسؤول عن علاقات بلاده الخارجية، أن يزعم ما يزعم، حقاً أو باطلاً، عن جهاتٍ خارجيةٍ تتآمر على نظام الحكم في بلاده، إلا أن ما زاد على ذلك، وهو ذكره بلدين لا علاقة لهما بما يدور في بلاده، السودان وليبيا، في مقاربة استفزازية تستهين، ليس بنظامي البلدين أياً كانت توجهاتهما، بل تتعدّاهما للإساءة إلى الشعبين فيهما.

الشعوب يلهم بعضها بعضاً، لكون رفض الظلم والطغيان فطرة في البشر

لم تكن انتفاضة السودانيين هبّة عشوائية بلا مبرّرات، إذ شهد العالم أجمع كيف أبدع الشباب السوداني في غضبة شعبية حملتها القطارات، واحتشدت فيها الشوارع بجموع الغاضبين من شبيبة السودانيين على نظامٍ ظالمٍ. لك أن تتصوّر كيف استجدى رأس ذلك النظام الباطش الفتاوى من بعض فقهاء نظامه، التي قـد تجيز له إهدار دم ثلثي شعبه، لينعم هو والثلث الباقي بالحياة والبقاء في كرسي السلطة الباغية.

(3)

رأى العالم فتاة سودانية سمّوها أيقونة الثورة، تلهم جموع النساء قبل جموع الرجال، للخروج لإسقاط نظام استبدادي، بتظاهرات سلمية، فيواجههم زبانيته بالهراوات ومسيّل الدموع، وبزخّات الرصاص الحي والمتشظّي، ولكن في النهاية سقط الذي طغى. الدماء النبيلة من صدور الشباب الذين استشهدوا في الخرطوم، وفي مدن عديدة في السودان، فأسقطت النظام، لم تقع في عين عبد اللهيان، لكن الشعب الإيراني رآها، وربما استلهم انتفاضته منها. والشعوب يلهم بعضها بعضاً، لكون رفض الظلم والطغيان فطرة في البشر. نعجب أن تعشى عيون مسؤولي إيران عن انتفاضةٍ تقودها نساء بلادهم، وتتصاعد تحت أبصارهم، من سوء أفعالهم وصلفهم، فيهربون إلى اتهام عناصر خارجية تحرّض وتتربّص.

من فطرة أنظمة الطغيان أن تتعاون لحماية مظاهر طغيانها

إن كانت السخرية من الحكومات جائزة، فتلك من مناكفات السياسة في العلاقات بين حكومة وأخرى. أما السخرية من الشعوب، فتلك جريرة قد لا تُغتفر وتستهجنها الشعوب، إذ هي الفتنة تعمل على إشاعة الضغائن بين بني البشر. الشعوب هي الأبقى، والحكّام إلى زوال، إلا إن أراد الخالق زوال الجميع.

(4)

أما عن احتجاج السفارة الإيرانية في لندن، ومزاعمها أن السلطات البريطانية لم تقم باللازم لقمع المحتجين من الإيرانيين ومن معهم من المتعاطفين في مقاومة الظلم، فذلك يعيدنا إلى تاريخ قديم للنظام الإيراني الحالي في بؤس احترامه التقاليد الدبلوماسية. لترشيد علاقات الدول، عبر ممثليها المعتمدين، توافق المجتمع الدولي على اتفاقيتين: لتنظيم العلاقات الدبلوماسية لعام 1961، ولتنظيم العلاقات القنصلية لعام 1963. لكن العالم شهد كيف اجتاح طلاب النظام الإيراني السفارة الأميركية في طهران في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1979، واستولوا عليها، ثم احتجزوا عدداً معتبراً من دبلوماسييها رهائن 444 يوماً. جرى ذلك تحت بصر حكومة الثورة الإسلامية التي حرّضت شبابها لاحتلال السفارة الأميركية واحتجزوا الموظفين الدبلوماسيين، واستولوا على وثائقها، ثم أحالوها متحفاً مفتوحاً، بعد أن سمّوها "وكر التجسّس". أحد قادة أولئك الطلاب صار دبلوماسياً وتدرّج ليصير سفيراً في دمشق، ثم وكيلاً لوزارة الخارجية الإيرانية.

(5)

لعل على المسؤول الإيراني الذي استهجن ما أسماه تقاعس الأمن البريطاني عن حماية سفارته في لندن من المحتجين من بني جلدته أن يتذكّر كيف كان تصرّف حكومة بلاده الإسلامية أواخر سبعينيات القرن الماضي مع رهائن السفارة الأميركية في طهران. لكأن ديننا الحنيف لم يحضّ على حماية الرسل والمبعوثين، وله أن يقارن ذلك التصرّف القديم المذموم، بالتصرف اللاحق في هذه السنوات الماثلة. هنا نشهد أجيالاً غير أجيال ذلك الزمان، وظروفاً غير ظروفه.

أساليب الاستبداد الرقمي في مواجهة احتجاجات النساء في إيران، التي صارت انتفاضة آخذة في الاتساع، هي، لمن يمعن النظر، ممّا استلهمه النظام الإيراني من تجارب الاستبداد الرقمي الذي مارسه بعض الطغاة في أنحاء العالم. لم يكن طغاة السودان استثناءً في مواجهة تظاهرات احتجاج الشباب هناك، إذ واجه الشباب المنتفض في الخرطوم صنوفاً من ممارسات الطغاة في قفلهم مسارات الجسور بالحاويات الحديدية، وقطع الإنترنت تماماً، بل إلغاء شبكات التواصل بالهواتف الجوّالة أحياناً، والاكتفاء بالتواصل عبر الشبكة الأرضية.

تقييم ثورات الربيع العربي بأنها آلتْ إلى فشلٍ بائن، أو غيّبتها موجات طغيانٍ متجدّد، تبسيط يجافي واقعاً آخذاً بالتحوّل التاريخي

ومن فطرة أنظمة الطغيان أن تتعاون لحماية مظاهر طغيانها. ولعلّ ذلك ما يفسّر سخرية الوزير الإيراني من انتفاضة الثائرين من شباب السّودان، في قوله إن إيران ليست هي السّودان، بما يضمر تواطؤاً منهم، درجوا عليه منذ سنوات علاقاتهم المريبة بنظام البشير. ولا حاجة لنذكّر بمن أوعز إلى نظامه، بأساليب ماكرة، استضافة رموز جلبتْ للسودان سمعة رعاية الإرهاب الدولي. ولقد تناهى إلى أسماعنا ما جاء من مخابراتٍ غربيةٍ وأخرى أميركية، تحدّث عمّن دفع بن لادن والذئب كارلوس إلى الاختفاء سنوات في السودان.

(6)

لعلّ شعب السودان يعجب ممّن لا يرى فارقاً بين نظام استبدادي باطش وشعب ينتفض لينعم بالحرية والعدالة والسلام، فيبلغ به تبخيس انتفاضة الجيل الطالع في السودان، فيلمح إلى أن حراكه هو محض تحريضٍ من قوى استخباراتية أجنبية. من البداهة القول إنّ أحدَ وجوه انتفاضات الشعوب عموماً هو الضيق من طول مكوث أنظمة الطغيان في حكمها، فلا يرى قادتها الممسكون بالسلطة والجالسون عشرات السنين في كراسيها، سـوءاتها، ولا مفاسدها. تلك قياداتٌ هرمتْ، وقد هرمنا معها، كما قال ذلك الشيخ التونسي، ولم يعد بمقدورنا، ولا بمقدور شبابنا، تحمّل عجزها عن الاستجابة لمطلوبات جيل من غير جيلهم، ولطموحات شباب تفتحت أذهانه، وعبر ثورات التواصل، على النظر إلى العالم من حولهم بغير نظرتهم. جيل الثورة الإيرانية الذي كان شعاره قبل 50 عاماً "مَرك بَر أمريكا" (الموت لأميركا)، قد فارق زمانه الآن، فلا الولايات المتحدة ولا إيران هما الآن على حالهما الذي كانا عليه في سبعينيات القرن الماضي.

لك أن تنظر إلى فريق إيران في مونديال 2022، في احتجاجهم الصامت في أولى مبارياتهم أمام نشيدهم الوطني، على قمع الانتفاضة في بلادهم. من كان منهم يجرؤ على فعل ذلك، لولا أن الأمر، على بساطته، بدا ملمّحاً إلى وجهٍ من صراع قادم بين جيلين، غابر وحاضر.

(7)

تقييم ثورات التغيير في الربيع العربي بأنها آلتْ إلى فشلٍ بائن، أو غيّبتها موجات طغيانٍ متجدّد، هو تبسيط يجافى واقعاً آخذاً بالتحوّل التاريخي، ويغفل إغفالاً رغبوياً عند ذلك الجيل المتشبّث بأنّ أجيالاً قادمة ربما لا تزال في رحم الغيب ستحدث التغييرات بضربة لازب. النهوض والأفول من سنن التاريخ، تستوي في ذلك الشعوب هنا أو هناك، في السودان أو في ليبيا أو في إيران أو سواها.