بين الشلّة والثُّلّة

10 أكتوبر 2022

(نورس شلهوب)

+ الخط -

طالما تساءلت عن الفرق العملي بين مفهومي الثلّة والشلّة، وإنْ كانا مختلفيْن، حيث إنه عادة يُشار إليهما في سياق معنى واحد، وهل تطوّر منذ أن عرّفه الجاحظ في "البيان والتبيين" "الشلّة هي الضأن الكثيرة، فإذا اجتمع الضأن والمعز قيل لهما ثلّة". وعلى هذا المعنى، الشلّة أكثر انغلاقاً من الثلّة، بينما الأخيرة تقبل الآخر وتنفتح عليه. حسب معطيات واقعية كثيرة، في التاريخ وفي الراهن العربي، تعريف الجاحظ هو ألطف تلك التعريفات قياساً إلى ما وصلت إليه الشللية من إقصاء وظلم للمبدع والفنان المنتج والمثابر والمعتكف على مشروعه وبلورة رؤيته. وإذا كانت العزلة من سمات الأديب والفنان الباحث عن الجديد، وأعني العزلة التي يعقبها الخروج إلى النور، وليس الانطوائية التي هي داء نفسي. تكون العزلة دائماً حول فعل أو عمل ينكبّ عليه الكاتب أو الفنان أو الصانع، وبذلك تكون عكس الشللية التي تنحو، في كثير من إثباتاتها الواقعية، إلى الانتقاء الضيّق والإقصاء. 
أستطيع أن أقول إن سنوات كثيرة قد تمرّ على المبدع والفنان المتميز، من دون أن يذكُره أحد بمشاركة أو رأي، وذلك لأنه لا يتبع شلّة معينة أو قطيع ضأن معين. وهذا ليس تعميماً، فربما ثمّة شلل، هي، في العمق، ثلل. وبالتالي، لا يشملها هذا التعريف الجاحظي في مداه الضيق. وكثيراً ما ترد هاتان الكلمتان في معرض الحديث عن التحيّز، وخصوصاً في أوقات توزيع جوائز الأدب ودعواته ومناصبه. وعادة، يتهم الذين لم يكن لهم نصيب من الحظ أولئك الذين نالوها تحت حجّة أنهم من الشلة. وهذا أمر لا يخلو في العادة من تهمة مضمرة. كما أنه كذلك يصعب إثباته. لذلك تقوم وقائعه في العادة على الظن. ولكن أين الحظ من هذه التهمة؟ أين كذلك قيمة الإبداع المتنافس؟ فلا بد أنه (الفائز أو المرشّح) يحمل قيمة، ولو نسبية، يمكن أن تؤهله للتمثيل. ولكن ليس بالضرورة أن يكون التقييم بنيوياً، ففي الجوائز، على سبيل المثال، كثيراً ما تنظر لجان التحكيم إلى "خارج النص"، أي إلى مكانة الكاتب وإنجازه. وفي هذه الحالة، ستخرج لجنة التحكيم أو تحيد قليلاً عن الموضوعية، وذلك لأن الكاتب الكبير، بطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون كبيراً طوال الخط، وهذا بديهي. كما أن الكاتب المغمور قد لا يظلّ في الظل طوال الوقت. لذلك فإن مفهوم "الثلّة" هنا يجب أن يتدخل ليزيح "الشلة"، أي يجب أن يتداخل الضأن والمعز حسب المثال التقريبي البارع لأبينا الجاحظ إذا كنّا نبحث عن بيئة ثقافية وعلمية صالحة في مختلف أمور حياتنا الإبداعية والبحثية.
وفي إطار الحديث عن الأدب، يمكن أن نستثني الكاتب والكتاب قليلاً، وننثر سؤالاً يتعلق بالجهات التي تشرف على هذه الجوائز والفعاليات والدعوات، أي مختلف منصّات التمثيل الثقافي العربي، فلا يجب أن نستبعدها، ويجب أن نحاول أن نعرف، قدر الإمكان، إجابات عن أسئلة مطروحة: ما رؤيتها إلى الأدب؟ وما استراتيجيتها في خدمة الثقافة؟ وما الأهداف وراء هذه الجائزة أو تلك الفعالية؟ أكيد أن لا أحد يمكنه أن يعزل نفسه عن الانخراط في الجوائز والفعاليات، ومن دون أن يدرك ما وراءها من أهداف، مكتفياً بالأهداف الثقافية المعلنة، وهذا مفهوم. وجميعنا يشارك في الفعاليات والتظاهرات والجوائز من باب المشاركة الإيجابية، ومن دون الانشغال بالسؤال عن الاختيار الذي ينصبّ أحياناً على أسماء معينة في الوطن العربي، من دون أسماء أخرى. بل هناك جوائز تتصل بأشخاصٍ معينين، وتلحّ عليهم بالمشاركة، ربما ليس فقط تقديراً لأسمائهم، وهذا وارد طبعاً، ولكن القارئ الفطن سيعرف أن الجائزة كذلك تبحث عن قيمة جاهزة تمنحها ثقلاً. وهنا نقف على نتيجة مهمة، أن بعض الجوائز يمكن أن تقرّ سلفاً، بسبب مدى قرب الحائز عليها وبُعده من دوائر الضوء الثقافي. وإذا قلنا الدوائر، فنحن، بشكلٍ من الأشكال، ننحاز إلى الجاذبية، جاذبية الاسم ولمعانه، وبالتالي، مدى قوته الشللية أو الثللية في أحسن الأحوال.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي