بين الرغبة في التغيير والعجز عن إشباعها

26 اغسطس 2024
+ الخط -

تشير دلائل عديدة في تونس إلى رغبة في التغيير تتّسع شيئاً فشيئاً لدى طيفٍ واسع من النخب، وحتى فئات اجتماعية واسعة. تعبّر عن حالة التذمّر هذه مواقف سياسية صادرة عن حلفاء الرئيس الذين ساندوه عند انقلابه. ربما سرّعت الانتخابات الرئاسية التي ستجري بعد نحو شهر من وتيرة هذا التفكّك الذي يحدُث تدريجيا في جبهة الرئيس التي ظلّت متماسكةً إلى حد قريب. ولكن علينا أن نتذكّر أن هذا التفكّك التدريجي كان قد سبقه تذمّر عبّر عن نفسه في مقولة المساندة النقدية، فالاتحاد العام التونسي للشغل وحركة الشعب وتنظيمات سياسية أخرى، علاوة على جمعيات وشخصيات سياسية ومثقفين، كانوا قد ساندوا الرئيس أياماً قليلة بعد انقلابه على دستور 2014، غير أن استفراده بالسلطة المطلقة وإلغاء أدنى مؤشّرات المشاركة السياسية، وهو الذي لم يلتقِ أياً منهم مطلقا منذ 25 يوليو/ تموز 2021 دفعهم تدريجيا، وبشكل مباشر أحياناًـ أو غير مباشر أحيانا أخرى، إلى إبداء نقدهم توجّهات الرئيس الذي أدار وجهه لهم، وذهب في مشروعه منفرداً.

لا يكمن الأمر في المراسيم التي سنّها الرئيس بمفرده لتفكيك جميع مؤسّسات عشرية الانتقال الديمقراطي، بل أيضاً حتى في صياغة الدستور، وترتيب الانتخابات وغيرها من السياسات الأخرى. كان هؤلاء، من خلال مساندتهم النقدية، يعبّرون دوماً أنهم أبناء "مشروع 25 جويلية" وليسوا خارجه، وأنهم أحرص عليه من الرئيس ذاته، في مزايدةٍ تخفي الرغبة في التقرّب إلى الرئيس وإبداء "النصح" له. لا يفضّل هؤلاء استعمال مفردات المعارضة التي بدوا يخشونها، بل يخيّرون عنها استعمال "غيرتهم" على المشروع وحرصهم على إنجاحه والمساهمة فيه من مواقع الشريك النصوح. ومع ذلك، لم يعرهم الرئيس أي اهتمام، فهو مكتفٍ بذاته، بل لم يتردّد حين نعتهم مرّات بالوصوليين والانتهازيين والراغبين في الكراسي.

اختار الرئيس قطاره السريع، وهو لا يهتم بمساعدي غرفة القيادة، ما دام يرى نفسه قائدا أوحد، يخوض معركة تحرّر وطني، كما يؤكّد هو ناعتا المتخلّفين عن أم المعارك التي يقودها بالخونة. لا أحد من هؤلاء المساندين النقديين يعرف تماماً تفاصيل هذا المشروع ولا أهدافه ولا إمكاناته وموارده. ربما تشير جملٌ قليلةٌ يلقيها الرئيس، في تصريحات مقتضبة للتلفزة التونسية في أثناء زياراته الميدانية، أو ما ينشر في صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فيسبوك، الى شعارات عامة، من قبيل: معركة التحرّر، الكرامة الوطنية، العلو الشاهق، التاريخ الجديد. أما البقية فهي سيل جارف من التهم والنعوت التي تستهدف معارضيه. غادر عديدون من حلفاء الأمس هذه الجبهة، وتركوا الرئيس يخوض معركته وحيداً، وكانوا قد ظنّوا في البداية أنها "حركة تصحيح" لثورةٍ حادت عن مسارها أو لانتقال ديمقراطي انحرف عن غاياته.

ظهرت في السنتين الماضيتين مبادرات سعت إلى تجميع الفرقاء وبناء جبهة معارضة حقيقية، غير أنّها فشلت

ظهرت في السنتين الماضيتين مبادرات سعت الى تجميع الفرقاء وبناء جبهة معارضة حقيقية، غير أنها فشلت، لأسباب عديدة، لعلّ من أهمها حجم الخلافات الحادّة في تقييم العشرية الفارطة والشروط المسبقة للنقد الذاتي التي يفرضها بعضهم على الآخرين، ويعفون أنفسهم منها تماما. فضلا عن تحمّل مسؤولية العشرية وأخطائها. لا يمكن أيضا إغفال عقد الشخصنة والزعاماتية التي عطّلت مبادرات عديدة، وحالت دون مجرّد التقارب.

ظلّ الوضع كما عليه، بل ازدادت الأمور سوءاً، خصوصا فيما يتعلق بمعاش الناس وقوتهم اليوم، وهي مسائل لم تكن مجرّد نتيجة حتمية للسياسات الفاشلة التي اتّخذها رئيس الجمهورية، منذ استفرد بالسلطة، وهو الحاكم الأوحد الذي أقال، قبل أسابيع، رئيس الحكومة، لمجرّد أنه نشر فيديو قصيراً يستحضر فيه إنجازات حكومته بمناسبة مرور سنة على توليه هذه المسؤولية. ذكّر الرئيس قيس سعيّد بعدها كل المسؤولين الذين قابلهم أنهم مساعدو سلطة تنفيذية فحسب، وأن عليهم تنفيذ سياسته. ضيّق تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية على الناس رغيفهم، خصوصا في ظل توالي سنوات الجفاف السبع التي تطويها البلاد، فالسدود مثلاً لم تتجاوز ربع طاقة خزّنها منذ أشهر عديدة، ما أضرّ بالفلاحة ومشاريع أخرى. لا ينتبه الرئيس إلى هذه المسائل الموضوعية، ويعتبر أن كل الأخطار تلك ناجمةُ عن أرواح شرّيرة تتآمر على البلاد وعليه شخصياً.

اختار الرئيس التونسي قطاره السريع، وهو لا يهتم بمساعدي غرفة القيادة، ما دام يرى نفسه قائدا أوحد، "يخوض معركة تحرّر وطني"

تعبّر حالة ترشيح حركة الشعب أمينها العام، زهير المغزاوي، للانتخابات الرئاسية المقبلة، حالة دالة على تفكك جبهة الرئيس، فهي الحركة التي أفردها الرئيس باستقبال خاص ساعات قليلة بعد انتخابه، فضلا عن لقاءات متعدّدة جمعتهما قبل انقلاب 25 يوليو (2021). ظلّ الحزب يدافع عن خيارات الرئيس، حتى تلك الأكثر تسلّطا وتشدّداً، فقد عبّرت تصريحات قياداته عن مساندتهم له من دون تحفّظ، باعتباره زعيماً وطنياً وعروبيا. تناسى هؤلاء أنهم كانوا مساهمين في العشرية الفارطة من مواقع متقدّمة، وقد كان لهم أكثر من 15 نائبا في البرلمان الذي حله سعيد ذاته. ركب هؤلاء موجة الشعبوية، وذهبوا في مساندة الرئيس شوطاً بعيداً. غير أنهم أبدوا، منذ أشهر قليلة، تبايناتٍ مع الرئيس، على خلفية أن مساندتهم "النقدية" لم تأت أكلها، وأنهم أوفى لمشروع 25 يوليو، حتى من خلّص أتباعه، متهمين أطرافاً عديدة، في الحكومة وغيرها، بتعطيل الرئيس، غير أنهم منذ أعلنوا ترشيح الأمين العام للحركة بدوا أكثر صرامة في نقد الرئيس، حتى أن المغزاوي ذهب إلى اتهام الرئيس بالطوباوية والتفرّد بالسلطة والتضييق على الحريات وخنق المشهد الحزبي.

يشكّك عديدون في صدق الرجل ونزاهته السياسية، وهو الذي كان، إلى أيام قليلة، من أوفى مناصري الرئيس. كانت مواقف القيادي في الحزب وأستاذ علم الاجتماع، سالم لبيض، جريئة، وقد نشرها في مواقع اجتماعية إعلامية عديدة، تشير الى أخطاء الحزب منذ 25 يوليو، معاتباً القيادة الحالية على سوء تحليلها الوضع وعدم مصالحة الفكرة الديمقراطية مع أطروحات القومية العربية (مزيج من الناصرية وتنظيرات عصمت سيف الدولة) التي يستند إليها الحزب.

يرى محللون أن حالة التفكك والرغبة في التغيير لا تعتري جبهة الرئيس فحسب، بل أيضاً طيفا وسعا من الناس، مستندين في ذلك إلى عمليات استطلاع آراء أنجزتها مكاتب مختصّة في الأسابيع الفارطة، غير أن كل هذه الرغبات التي قد تصل إلى طلبٍ ملحّ على التغيير، قد لا تشبعها الانتخابات الحالية، ولا تستجيب لها، لأن شكوكاً قوية في أن تكون الانتخابات الحالية لا تعبر عن تلك الإرادة، وقد حرم عشرات المترشّحين للرئاسة من هذا الحق. يخشى أن تظلّ تلك الرغبة كامنة، باحثة باستمرار عن أشكال الإشباع خارج الانتخابات، وربما خارج السياسة أصلا.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.