بين إنكار السُنّة وردّ الحديث المضطرب
تعود قضية الجدل في مرجعية السُنة النبوية إلى دوراتٍ متعدّدة من الأزمنة، ليست المعاصرة وحسب، بل وحتى المتقدّمة، إذ أن الانقسام العميق القديم بين المسلمين، خصوصا الطائفتين الكبيرتين، اعتمد أيضاً على صحة هذه المرجعية، كلٌ ومنهجه، كما هو مع طوائف أخرى، ولقد امتد هذا الخلاف قروناً واسعة، بين السُنّة والشيعة، باعتبار أن مرويات آل البيت مقدّمة على غيرهم، وباعتبار نفي العدالة عن جسمٍ ليس قليلا من كبار الصحابة، فضلاً عن اعتبار مقولاتهم ضمن الصراع السياسي لاستبعاد الإمام علي. غير أن المنهج المختلف هنا في صراع الموقف القديم أن آلة التحقيق والإسناد لدى الشيعة الإمامية بالجملة، وإن اعتمدت الأسانيد إلى آل البيت، غير أنها منفصلةٌ عن التحقيق المُشدّد في فرز الرواة وتمحيصهم، فيعتمد التسليم العرفاني الذي يرد على أئمة آل البيت الممثلين للأئمة الاثني عشر. وهم الأئمة المشهودون الموثقون المعظمون عند أهل السنة، باستثناء تعريف الغائب المنتظر. لكن هذا التسليم للأسانيد يجمع بين الجهل بحال الرواة واعتماد البلاغ الغيبي، وكأنه يقارب النص القرآني، وهو التنزيل الذي وُثّق ونُقل وثُبّت عبر قرون، وجماعات متواترة منذ جمعه الأول وحصر مصحفه.
مصطلح أهل السُنة باعتبارهم يعتمدون السُنّة النبوية المحقّقة الأسانيد، والمدقّقة عبر الجرح والتعديل، وحصرهم في مذاهب محدودة، هو غير صحيح
وما أقصده هنا أن هذا التسليم هو أيضاً يعتمد الصراع السياسي المقابل الموالي لآل البيت، ثم يُقدّم التزكية الإلهية في إطار مجهول، لم يُحقق فيه النص ولم يُجرّح ويعدّل فيه الرواة. وهذا ما يحتج به السُنّة في منهجية الرواية، ويفتح باب الاحتشاد للخرافة، استناداً لهذه المقولة، والتزكية الإلهية التي لم تثبت للمرويات، فقط لأنها من تسلسل آل البيت ومواليهم، من دون عرض هذه السلسلة لمنهجية النقد التحقيقي. ومن جانب آخر، فحتى مصطلح أهل السُنة باعتبارهم يعتمدون السُنّة النبوية المحقّقة الأسانيد، والمدقّقة عبر الجرح والتعديل، وحصرهم في مذاهب محدودة، هو غير صحيح، فحتى المعتزلة والإباضية وغيرهم يعتمدون منهج الروايات السُنّي بالمجمل، واعتماد الأصلين كضلعي بلاغ للرسالة، وإن قُدّم القرآنُ قطعاً. ومع ذلك يتم فرزهم، على الرغم من أن الخلاف بينهم وبقية المدارس السنية من داخل المنهجية ذاتها، والتي يتسلل لها البعد السياسي أيضاً. غير أن هناك خلافاً جوهرياً في هذا العنوان بين مسارين كبيرين، لا يُمكن أن يُجمع بينهما في إطار واحد في الزمن المعاصر، وهو الفارق المركزي بين التشكيك في صحة أحاديث والرفض الأصلي لاعتماد السُنّة مرجع فهم للرسالة الإسلامية. ولا بد هنا من التذكير بأنه ثبت بالفعل بأن مروياتٍ في السُنّة النبوية قد دُست فيها، بناءً على التوظيف السياسي الحاشد وغيره، أحاديث لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تثبت عنه.
صناعة التحشيد على أحاديث محدّدة، ومحاربة من يشكك في إسنادها، أمرٌ جرى منذ العهود القديمة، وتم التحريض بموجبه، بناء على انحياز السلطان
والقول إن أئمة الحديث قد نقشوا كل حديثٍ موضوع، ولم يتسرّب شيء، لا يمكن التسليم به، إذ إن في خلاف الرواة السُنّة وأئمة الجرح والتعديل أنفسهم من يجزم بوضع الحديث (أي اعتباره حديثا موضوعا)، في حين يراه الآخر حديثا حسنا أو صحيحا، فمن الطبيعي أن تتسلل بعض النصوص، فما الذي يحكمها إذن؟ تحكمها قاعدة مهمة، وهي قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، وفهم كليات الشريعة ومقاصدها الكبرى، أي أننا هنا نتعامل مع إمكانية تزييف نصٍّ وإسناده للنبي باحتمالية واردة، لكن هذه الاحتمالية لا تسوّغ رفض مرجعية السُنّة، وعموم أصلها التشريعي. في الوقت ذاته، صناعة التحشيد على أحاديث محدّدة، ومحاربة من يشكك في إسنادها، أمرٌ جرى منذ العهود القديمة، وتم التحريض بموجبه، بناء على انحياز السلطان، في أي دورةٍ زمنيةٍ وعهد عربي وغير عربي، لكتلة العلماء المقرّبين المناوئين لذلك العالم المجتهد، وهناك حشد منهم من مدارس مختلفة تعرّضوا لهذا الإقصاء على مستويات مختلفة، فتدخل القوة السياسية في منع مراجعة حديثٍ يسند لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو مسلكٌ لا يزكّي هذه الحملة الممانعة، ولا ما ورثته الأمة منها، بل إن جدل الأئمة الكبار أنفسهم، وبعض مُحدّثي العصر، عن صحة رواية حديثٍ، ولو كان في الصحيحين، أمرٌ قد وقع في عدة دوراتٍ من تاريخ التشريع الإسلامي، بين صحة الاستدلال به، أو اعتبار متنه مضطرباً، أو أنه مردودٌ بغيره من النصوص. وهو ما يعني أن هناك مساحة للنقد في تاريخ التشريع الإسلامي لنصوص الأحاد كانت متداولة، وهذا لا يعني أن كل صناعة أو زعم بالطعن يؤخذ بالتسليم، ولكن أيضاً هذا التحشيد والتحريض في الموقف من حديث ومناقشة سنده أو اضطراب متنه، لمخالفته لكليات الشريعة، هو ضمن إطار الجدل الأصولي القديم المشروع.
لا يجوز التعامل مع الأئمة وجهدهم العظيم بأنه جزء من التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه
هناك فرق كبير بين اعتماد الأمة للصحاح كأدق ما تم تحقيقه وإسناده، وربط السُنة بكليات القرآن المجمع على أنها من أصول الاجتهاد، وبين مراجعة أحاديث الأحاد وردّه أياً كان رواته، بما فيه قاعدة اضطراب المتن، والتي وردت لدى جدل المذاهب الفقهية القديمة، حتى أن الإمام مالك قدّم عمل أهل المدينة عليها، لكون صناعة الاستدلال لديه أقوى حجّة، وقس على ذلك تاريخا من الردود وأصول المذاهب التي توازن في فهم النص بالعقل والاستصحاب والمصالح المرسلة. وأن الإمام البخاري أو مسلم من أوثق من دقق الإسناد، جرحاً وتعديلاً، والتي كانت صناعةً دقيقة تُبين قوة منهجية النقل المتكئ على أصلي الرسالة الكتاب والسُنة، لا يعني أن من يناقش مروياتهم أو يتحفظ على بعض ما ورد فيها من أحاديث الأحاد ضال بالمطلق. وهذا بالطبع لا يشمل من يردُّ الحديث لأجل صناعة دين جديد للمستبد أو للغرب، كما لا يجوز أن يتم التعامل مع الأئمة وجهدهم العظيم بأنه جزء من التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.