بوّابة جحيم العراق
نشأ أبناء جيلي في دولة ونظام سياسي كان يُسمِّي عبد الكريم قاسم في وسائل الإعلام، وحتّى في المناهج الدراسية بأنّه "شُعُوبِيّ". لم نكن نفهم معنى المفردة بشكل دقيق، خصوصاً أنّها استُقدِمت من التراث في مناهضة دعاوى النُخَب الفارسية والتركية إبّان العصر العبّاسي، المطالبين بالمساواة مع العرب تحت راية الإسلام. كان عبد الكريم قاسم شُعُوبِيَّاً في نظر حزب البعث في العراق، لأنّه كان ضدّ المشاريع القومية العربية، ولا يُرحّب بالاندماج مع الجمهورية العربية المتّحدة، وهي تجربة انهارت سريعاً، ولم يكن لها أفق.
بعيداً عن إعلام سلطة البعث وخطابها الرسّمي، كان المجتمع العراقي خلف جدران البيوت، له رأي آخر، خصوصاً أولئك المنحدرين من الجنوب العراقي، فهم يرون عبد الكريم قاسم رجلاً وطنياً. أمّا عند أهالي مدينة الثورة (تسمّى اليوم مدينة الصدر) فهو يقارب صفات القدّيسين والأنبياء. السبب في هذه المحبّة الاستثنائية والولاء المستمرّ، الذي خرج إلى العلن ما بعد 2003، أنّ قاسم أسكن سكّان الصرائف وبيوت القصب والطين العشوائية، من النازحين إلى بغداد من الجنوب، في بيوت نظامية. كما أنّ فترة حكمه القصيرة (أربع سنوات وسبعة أشهر)، التي انتهت بانقلاب رفيق قاسم، عبد السلام عارف (فبراير/ شباط 1963)، أبقت صورته زاهيةً، ولم تتلوّث كثيراً في أذهان الناس.
نشأت أنا في هذه البيئة الاجتماعية، أسمع التشويهات الإعلامية الرسمية التي تصف قاسم بالشُعُوبِيّ والديكتاتور، في مفارقة صارخة، فهذا يجري في زمن صدّام حسين، أعتى ديكتاتور مرَّ في تاريخ العراق، ثمّ أسمع في البيت، وبين الأقارب، مديحاً مبالغاً فيه لقاسم وحقبته. وكنت أفهم أنّ جزءاً من هذا المديح هو نكايةً بالنظام السياسي للبعث الحاكم. ظهرت عشرات الكتب التي تفحص حقبة قاسم وانقلابه على النظام الملكي، وانقسم المثقّفون والمُعلّقون حول هذا الحدث الى فريقَين، يُجدّدان السجال مع كلّ ذكرى سنوية لانقلاب 1958. ظلّ ولاء الناس لعبد الكريم قاسم واستمروا يحبّونه، حتّى إنّهم أقاموا له تماثيل في ساحات وشوارع بغداد، أحدها في المكان الذي نفّذ صدام ورفاقه فيه عملية اغتيال فاشلة ضدّ قاسم في شارع الرشيد ببغداد، وآخرها تمثال مهيب في مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية ببغداد، وهو المكان الذي أعدم فيه قاسم.
لم تعجبني السجالات المُحبّة والكارهة، والتي تتجدّد مع كلّ مناسبة، لأنّ فيها انحيازات مُسبقة، ولكنّني لم أحبّ قاسم لأنّني تربّيت تحت سطوة البعث، ولم أعرف قاسم جيداً وقتها، ثمّ بعد زوال البعث ونظامه، صرت أمام مصادرَ متعدّدة تراجع حقبة قاسم وما قبلها في النظام الملكي، وما بعدها من انقلابات عسكرية انتهت بنظام صدّام، وصرت في منطقة خارج الحُبّ والكُره، هي منطقة الفهم والتعرّف. الشيء الذي صار يتأكّد عندي، مع تزايد المعلومات، أنّ أهلي وناسي، الذين يمجّدون عبد الكريم قاسم، لم يكونوا يعرفون أنّ البيوت التي منحها لهم كانوا سيحصلون عليها في الأحوال كلّها، بل إنّ ما منحهم قاسم هو مُجرَّد قطع أراضٍ مع مبلغ يساعد في البناء، بينما منح الضبّاط أراضيَ أكبرَ في أحياء أوسع.
كان المشروع من ضمن مقررات مجلس الإعمار في العهد الملكي، وكان من المُفترَض أن يُنفّذ بطريقة أفضل. ولم يكن من بنات أفكار قاسم. وعديد المشاريع التي افتتحها كانت كاملةً وجاء هو ليقصّ الشريط فحسب، وبعض المشاريع التي نفّذها في فترة حكمه القصيرة استلّها من أوراق مجلس الإعمار الملكي. لكنّ هذه الإنجازات مع حسن النيّات لا تشفع لقاسم.
هناك لوحة للفنان العراقي علي آل تاجر يرسم فيها قاسم في صورة سمكة كبيرة خضراء، وداخلها سمكة حمراء (تمثّل نظام صدّام)، ثمّ في داخل السمكة الصدّامية هناك سمكة صغيرة سوداء، تمثّل النظام الحالي. أتفهّم محبّة الناس لهذا الضابط العسكري، ولكنّي لا أستطيع النظر إليه صاحبَ إنجازات، أو ربّما إنجازه الأبرز والأكثر أهمّية أنه فتح بوّابة الجحيم على العراق.