بوجود قرداحي لا يكسب أحد
بعد انفجار مرفأ بيروت، استقال رئيس الوزراء اللبناني، حسّان دياب، لكنّه بقي يصرّف الأعمال أكثر من عام، حتى استطاع نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة، قيل إنّها حكومة تكنوقراط، بمعنى أنّها لن تمارس السياسة بقدر ما ستحاول إصلاح الاقتصاد الذي تداعى سريعاً، ووصل إلى حافّة الهاوية. ومن المفترض أنّه أُخذت السِّيَر الذاتية لمرشّحي الحكومة، ومعيار النجاح العملي قبل النظر إلى أيّ اعتبار آخر. على الرغم من ذلك، ظهرت الخلفيات السياسية، بشكل ما، لكنّ الجميع قبلها على مضض .. أخذ الساسة اللبنانيون وقتهم، وزيادة، لتخرُج حكومة ميقاتي، وهذه عادة لبنانية أصبحت بحكم التقاليد، أقصدُ طول المدة في اختيار المكوّنات السياسية، سواء الرئيس أو الوزراء... ظهر ميقاتي في بيانه الأول باكياً يغالب دموعه، متأثراً وهو يعدّد ظروف لبنان الاقتصادية المزرية، ووصف وزراءه بأنّهم فريق عمل في خدمة لبنان، وليسوا حكومة عادية! وكان حاسماً عندما قال: "سنطرُق باب كلّ دولة عربية للمساعدة"، ما يعني أنّه كان يعوّل على دعم مالي عربي كبير. وعادة ما يأتي هذا الدعم من الخليج، وتأتي النسبة الأكبر منه من السعودية. كان تصريحاً مفرطاً في التفاؤل، ولا يعكس امتلاك صاحبه خطة اقتصادية واضحة، رغم حكومته "التكنوقراطية" العريضة التي وصف أعضاءها بفريق عمل.
أتى لافتاً في الحكومة الجديدة اسم جورج قرداحي، الوجه التلفزيوني الشهير الذي قدم واحداً من أنجح البرامج العربية، وأكثرها حضوراً. ولم تتأثر شهرته بعدها حين قدم برنامجاً آخر، أقل قيمة، فبقي في ذاكرة الناس بوجهه الذي يحاكي وجوه العصاميين في مظهر الشباب ومسحة الوسامة والابتسامة الدائمة. وبعد ستة أسابيع من عمر حكومة "التكنوقراط" الجديدة، التي تضع في أولوية خططها طلب العون من "المحيط العربي"، ظهرت تصريحاتٌ لقرداحي، الذي أُعلن وزيراً للإعلام، ينتقد فيها الحملة السعودية على اليمن. وفور ظهور هذا التصريح، تعثرت إجراءات طلب العون السريع، وباشرت دول خليجية بخطواتٍ تشبه قطع العلاقات، كسحب السفراء ومنع الرعايا من زيارة لبنان، مع تصعيد سياسي، ومطالبات بتقديم اعتذار أو حتى استقالة هذا الوزير .. وجدت حكومة "الإنقاذ" نفسَها في ورطة، واحتار عرّابها ميقاتي، وهو مجبر على تقديم الاحترام للدول التي سيطلب عوْنها، ومجبرٌ أيضاً على حماية أحد وجوه حكومته، فتخبّطت التصريحات، وسارع قرداحي ليغطي على غلطته التي وقع فيها، لكنّ القرار يبدو حاسماً، بأنّ من غير المسموح بعد لهذا الرجل أن يكون وزيراً، وعليه أن يغادر فوراً، إذا أراد ميقاتي تحويل أمنيته بتسلّم المساعدات إلى حقيقة.
رسّخ قرداحي سمعته المهنية وسيرته الذاتية في استوديوهات البث التلفزيوني الخليجي سنين طويلة، ظهر فيها وجهاً تلفزيونياً محبوباً، لكنّه أدار ظهره لذلك، وبدا رجل أيديولوجيا ممتلئاً بروح حزبية تملي عليه سلوكه وتصريحاته. وهذه مشكلة قد لا تكون خاصة بقرداحي، فهي حالة المنطقة كلها، وبالطبع حالة لبنان "المُجبر" بحكم تركيبه السكاني ومرجعياته المذهبية، على توزيع تحالفاته بين أطرافٍ متناقضة، الأمر الذي يصعب على أيّ سياسي النجاح فيه. وما صدر عن قرداحي يؤكد أنّه ينتمي إلى لون سياسي محدّد، وهذا بالذات ما يحاول ميقاتي التهرّب منه بإطلاق صفة التكنوقراط على حكومةٍ تشكَّلت لاستجرار الدعم الخارجي.
تحاول السعودية من خلال رد فعلها أن تؤكد أنّها قوة تحتل موقعاً رائداً في الإقليم، والتطاول عليها بمثل هذه الانتقادات، سيُجابَه بما يتناسب مع المكانة الريادية لهذه الدولة، على الرغم من أنّ انتقاداتٍ أكثر حدّة صدرت بحقها على خلفية حربها في اليمن، من دول كألمانيا وبريطانيا، ولم تتخذ السعودية أيّ إجراء! لكنّها اليوم في حالة قرداحي قادرةٌ على القيام بما يمكن أن يعدّ تأديباً له، ولن يستطيع أن يقاوم كثيراً الأصواتَ التي دعته إلى الاستقالة، وإن قاوم، فإنّه، في النهاية، سيقدّم تنازلاً يعكس حجم السعودية وقوة تأثيرها في لبنان.