بوتين يلهث وراء بايدن على رقعة أوروبا

18 ابريل 2022
+ الخط -

شيء من العنفوان يشوبه الغضب، يعتمر صدر المخضرم سيرغي لافروف، المتربع على كرسي الدبلوماسية الروسية منذ نحو عشرين عاماً، عندما يجزم أنّ بلاده "تريد القضاء على نهج واشنطن بالهيمنة على العالم". ويعزّز عنفوانه سيد الكرملين، فلاديمير بوتين، عندما يؤكد أنّ الغزو العسكري لأوكرانيا "نبيل" وأنّ الهجوم سيستمر، وأنّ الأهداف الروسية ستتحقق "لإنقاذ الروس (الأوكرانيين) من النازيين الجدد"! هذه التصريحات التعبوية المكثفة، في الشكل والمضمون، تعكس مدى خطورة المغامرة التي تورّط بها القيصر الجديد، علماً أنّ مجلة فوربس الأميركية وصفته بـ"الرجل الأقوى على وجه الكرة الأرضية" كما وصفه عمدة سان بطرسبورغ السابق، أناتولي سوبتشاك، الذي كان بوتين مساعداً له بـ"الرجل الصامت والمثابر والفعال". كان هذا في زمن إطلاق ميخائيل غورباتشوف حملته لإصلاح النظام السوفييتي (بيريسترويكا)، وكان سوبتشاك أهم داعميه على رأس "حركة الإصلاحات الديمقراطية" عام 1991. غير أنّ بوتين أثبت أنّه من طينة أخرى منذ دخوله الكرملين رئيساً للحكومة في زمن الرئيس بوريس يلتسين، قادماً من أروقة أجهزة المخابرات السوفييتية (كي جي بي)، كاشفاً عن نزوات وجنوح سلطوي متأصل منذ مبادرته إلى إزالة تمثال لينين من ساحة الكرملين، وخوضه حرب الشيشان، ثم الحروب التي تلت في جورجيا وضم شبه جزيرة القرم وتحريضه جمهوريتي دونباس الأوكرانيتين، ثم التدخل العسكري في سورية، وأخيراً لا آخراً غزو أوكرانيا، قبل أن يعيد الاعتبار للديكتاتور السوفييتي، جوزيف ستالين، مثاله أو نموذجه الحقيقي للسلطة. وهو ما يطرح السؤال عما إذا كان بوتين يعدّ نفسه اليوم ستالين جديداً يريد إعلاء إمبراطورية روسيا الاتحادية. كلام الأمس يشي بذلك، إذ يعلن رئيس دبلوماسيته، الذي كان ممثلاً لبلاده عشر سنوات في الأمم المتحدة، أنّ روسيا تريد أن تقضي على هيمنة واشنطن على العالم، ما يوحي بأنّه يريد أن ينتزع منها هذه الهيمنة عبر محاولة كسرها في أوكرانيا، أي إنّ روسيا أرادت من هذه الحرب التي شنّتها على أوكرانيا منصةً تنطلق منها، وفرصة لقلب موازين القوى على الصعيد الدولي. ويعزّز هذا التوجه وصف بوتين الهجوم على أوكرانيا بـ"النبيل"، أي إنّه يعطي طابعاً أخلاقياً لهذه الحرب، وهذا ما يلجأ إليه عادة الزعماء القوميون أصحاب السلطة المطلقة الذين يحاولون إضفاء صبغة إلهية على سلطتهم، ويؤكّد بوتين أنّ الهجوم سيستمر حتى تحقيق الأهداف بإنقاذ الروس الأوكرانيين من النازيين الجدد.

بوتين ماضٍ في حربه إلى مواجهة طويلة ستأخذ أشكالاً مختلفة، وتشمل مجالاتٍ متعدّدة، خصوصاً أنّه وضع نفسه في مواجهة القارّة الأوروبية

بمعنى آخر، حدّد بوتين لهذه الحرب هدفين: تحرير أوروبا الشرقية التي تكاملت أوروبياً وتحصّنت أطلسياً، من النازية كما كانت أهداف ستالين في زمن الحرب العالمية الثانية. واستبدال الهيمنة الأميركية الاستعمارية بهيمنة روسية إنقاذية للشعوب المضطهدة. وهذا يؤكد أنّ بوتين ماضٍ في حربه إلى مواجهة طويلة ستأخذ أشكالاً مختلفة، وتشمل مجالاتٍ متعدّدة، خصوصاً أنّه وضع نفسه في مواجهة القارّة الأوروبية قاطبة، كما أنّ الولايات المتحدة نجحت، في المقابل، بتجنيد كلّ أوروبا في وجهه، بما فيها تلك الدول المحايدة منذ عقود. وطبعاً، هذا ما تريده الإدارة الأميركية الحالية التي زجّت نفسها في هذه المواجهة، وجنّدت كلّ قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وكذلك نفوذها الدولي على مدى القارّات، إلى درجة أنّ الصين والهند، وهما الدولتان الأكبر والأكثر كثافة بشرية، وصاحبتا الاقتصاد العملاق الصاعد وصديقتا روسيا، تقفان على الحياد. وفي هذا السياق، حاولت موسكو اللعب على وتر الخلافات بين الولايات المتحدة والصين، محاولة استغلال الصراع الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي المحتدم بينهما، كما أكّدته الاستراتيجية التي سلكها الرئيس الأميركي، جو بايدن، منذ دخوله البيت الأبيض عبر محاولة إحراج بكين، ودفعها إلى مساندتها في الحرب على أوكرانيا لكن من دون جدوى...

قوى وفرق وتيارات لدى شعوب العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي يتوهمون في روسيا حليفاً لهم في عقيدتهم

في المقابل، يبدو أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن قرّر سلوك طريق اللاعودة بوصفه بوتين "مجرم حرب" و"مرتكب جرائم ضد الإنسانية". وهذا ما يعزّز منطقياً الاعتقاد أنّ المواجهة ستكون قاسية وستطول، ولن نشهد نهايتها في الأشهر المقبلة. وبين الحرب النبيلة والقضاء على الهيمنة الأميركية واسترجاع ستالين، يبدو أنّ بوتين قد قدّم العدّة لجيشٍ من المؤيدين والمناصرين والمعجبين في كلّ أنحاء العالم الذين يتوزّعون بين اليمين المتطرّف والعنصري وبعض الأوساط الدينية المسيحية التي تجيّشت لدعم روسيا في الحرب، كما ظهر في معظم الدول الأوروبية، من فرنسا إلى إيطاليا وألمانيا وغيرها، وبين اليسار المتطرّف والأيديولوجي الأوروبي الذي يشدّه حنين العودة إلى الزمن الستاليني، والذي يرى في بوتين القائد البلشفي الجديد الذي انتفض يقارع الاستعمار والإمبريالية وشركات النهب الرأسمالي المتعدّدة الجنسيات، إلى قوى وفرق وتيارات لدى شعوب العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي الذين يتوهمون في روسيا حليفاً لهم في عقيدتهم تجاه ما يسمّونه "الغرب المعادي" الذي يصبّون جام غضبهم عليه، من دون أدنى تمييز بين أوروبا والولايات المتحدة، وبين دول أوروبا نفسها، فيما الإشكال - الالتباس هو في الأساس حضاري وثقافي. كما يرون في بوتين نصيراً لهم على إسرائيل، ويعتقدون أنه رافعة لهم في نصرة قضية فلسطين، فيما هو يغطي إسرائيل في غاراتها شبه اليومية على "قوى الممانعة" الإيرانية ومليشياتها اللبنانية والعراقية التي تقوّض بسلاحها دولاً عربية وسلطاتٍ بأكملها، وبالأخص تبنّيه نظام الأسد الدموي الذي شرّد الملايين من شعبه وينكل به كل يوم، ويتآمر منذ نصف قرن على فلسطين والفلسطينيين.

أثبت بوتين أنّه يريد العودة بدول أوروبا الشرقية إلى ماضي الإمبراطورية السوفييتية، والتعامل معها مجرد دول تابعة تدور في فلك موسكو

أدّت هذه الحرب المستعرة التي أشعلها بوتين في قلب أوروبا إلى خلط الأوراق وفرضت إعادة النظر في الحسابات والأولويات على الصعيد الدولي. وقد تمكّن بوتين من فرض نفسه رجل حرب ثمنه تحويل أوكرانيا إلى قاعدة عسكرية أميركية أطلسية بدل أن تصبح دولة أوروبية صديقة ومسالمة. غير أنّه، في المقابل، جعل أوكرانيا في سلم أولويات واشنطن إلى درجة أنّها أصبحت تحظى بالاهتمام الأول، وربما الوحيد الذي سيفرض نفسه على أجندة الرئيس الأميركي طوال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته الرئاسية، بعدما تحولت المواجهة عملياً إلى حرب باردة جديدة في أوروبا، تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الدولية، وسعي روسيا إلى فرض نفسها دولة عظمى قطب في مواجهة أميركا رغم عدم التكافؤ والتباين الصارخ بين الطرفين على المستويات كافة، خصوصاً لأنّ بوتين فشل أو الأصح أخطأ في قراءته موقف أوروبا وكأنه خارجها كلياً، وأظهر أن ليس لديه حنكة الكبار، مغلّباً النزوع نحو العظمة والسيطرة على الرؤية الاستراتيجية من خلال تعاطيه مع الدول الأوروبية بالطريقة نفسها، ما جعلها تقف وقفة رجل واحد في مواجهته، بدل أن يحاول الاستفادة من النتاقضات في الحسابات والمصالح بينها وبين الولايات المتحدة، على الأقل في ما يتعلق بمسألة موضوع الطاقة كالنفط والغاز الحيوي جداً بالنسبة لأوروبا الغربية، وفي مسألة حسن الجوار مع دول أوروبا الشرقية، متل بولندا والتشيك ورومانيا وهنغاريا ودول البلطيق التي أثبت أنه يريد العودة بها إلى ماضي الإمبراطورية السوفييتية، والتعامل معها مجرد دول تابعة تدور في فلك موسكو.
المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية هي المفاوضات بشأن الملف النووي مع إيران التي يبدو أنّها دخلت إلى الثلاجة، رغم الكلام الإيجابي الذي تشيعه إيران، وتحاول أن تغطّي به تعثر المفاوضات والتعقيدات المستجدّة، والتغير في الحسابات التي دخلت عليها بين الأطراف الخمسة المعنية والمشاركة في المفاوضات، بدءاً بالحليف الروسي الذي بات يرى في المفاوضات وسيلةً للضغط على الطرف الأميركي بسبب العقوبات التي فرضت عليه، والتي هي أقسى وأشمل من تلك التي تطاول إيران. كذلك، يرى الملالي في الحرب على أوكرانيا فرصة لرفع العقوبات عن إيران نتيجة حاجة أوروبا الآن للنفط من مصادر أخرى غير روسيا، ناهيك عن حاجة الولايات المتحدة مجدّداً إلى الدول العربية، وتحديداً للنفط الخليجي، فيما المعادلات الجديدة التي أحدثها التغوّل الإيراني في المنطقة أدت إلى إيجاد محور إسرائيلي مع بعض العرب، يسعى إلى ابتزاز واشنطن وممارسة الضغوط عليها لمنع العودة إلى الاتفاق النووي عبر الميل نحو روسيا. وهكذا تشتدّ المناورات والكباش الروسي - الأميركي على رقعة الشطرنج الأوروبية!

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.