هل يشعل التنقيب الإسرائيلي المواجهة مع لبنان؟
عبرت، قبل أيام، باخرة التنقيب عن النفط والغاز اليونانية "إنرجين باور"، المشغلة من إسرائيل، قناة السويس، متّجهة نحو البحر المتوسط، لترسو في حقل كاريش في المنطقة المشتركة المتنازع عليها مع لبنان، استعدادا لبدء استخراج الغاز وتسويقه، فارتفعت أصوات من هنا وهناك، بعضها جدّي وكثير منها مزايد، مطالبة بالردّ على التحدّي والاستفزاز من إسرائيل، معتبرة أنه بمثابة عمل عدائي، ويمثل انتهاكا للسيادة اللبنانية، علما أن قدوم العائمة لم يكن مفاجئا أو طارئا، بل حضرت له إسرائيل منذ أشهر، فهل يؤدّي هذا التطور إلى توتير الأجواء وانزلاق الأمور نحو مواجهة في الأيام أو الأسابيع المقبلة، إلى حرب، وإنما بحرية هذه المرّة، على غرار التي حصلت في يوليو/ تموز عام 2006، في ظل أوضاع إقليمية ودولية ضبابية وشديدة الخطورة والتعقيد؟ الدعوة إلى اتخاذ خطوات حازمة جاءت من أطراف نيابية دخلت حديثا إلى البرلمان، والتي تمثل انتفاضة 17 تشرين الأول (2019) ومزاج بعض الشارع، بالإضافة إلى رأي خبراء وأصحاب اختصاص يعتبرون أن هناك الخط 29 الذي يمر ويفصل بين شمال حقل كاريش وجنوبه، ويعتبره لبنان أساسا للمفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والدولة العبرية، ولا يحقّ بالتالي لإسرائيل أن تعدّه ضمن حدودها البحرية، وضمن منطقة المياه التي يحقّ لها استخراج الغاز منها. أما السلطة اللبنانية فقد أصيبت بالإرباك، كما معظم القوى السياسية التي التزمت الصمت في البداية، وخصوصا حزب الله الذي يعتبر نفسه المعني المباشر بهذه المسألة، ما اضطرّه لاحقا إلى الاستدراك، وإعلان موقف حذر وانتظاري، رغم الكلام عالي النبرة في الظاهر الذي أطلقه نائب أمين عام الحزب، نعيم قاسم، وقال فيه إن "حزب الله ينتظر أن تقول الدولة اللبنانية إذا إسرائيل تعتدي لكي نتخذ كل الإجراءات ضد عمليات التنقيب، بما فيها استعمال القوة"، أي أنه حاول التلطي وراء الموقف الرسمي الذي يشكّل هو جزءا أساسيا منه، علما أنه لم ينتظر مثلا موقفا أو قولا مشابها من الدولة في حرب تموز 2006، وإنما كان هو المبادر.
المسألة اليوم شديدة الاختلاف والتعقيد منذ وافق لبنان قبل سنتين على إطلاق مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود البحرية بوساطة أميركية وبرعاية الأمم المتحدة، في منطقة الناقورة الجنوبية داخل الأراضي اللبنانية. وقد تحاشت الحكومة اللبنانية أن يضم الوفد أي مسؤول سياسي؛ وإنما فقط ضباط تقنيون من الجيش اللبناني وخبراء مدنيون. وكان لبنان قد سلّم عام 2012 رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة، بقرار رقمه 6433 يؤكّد فيها اعتماده الخط 23 خطّا رسميا فاصلا لحدوده البحرية المفترضة مع إسرائيل. إلا أن الدراسات التي نفذتها لاحقا دائرة الهندسة في الجيش، وحملها الوفد إلى المفاوضات، ركزت على الخط 29 الذي يضيف 1430 كلم2 إلى مساحة لبنان البحرية، وليس على الخط 23 الذي ينتقص من حقوق لبنان، ويلحق ضررا بثرواته النفطية والغازية، ومسّا بالسيادة اللبنانية، بحسب إحداثيات الجيش. عندها دخلت المفاوضات، على مدى جلسات متقطعة، في مراوحة دامت أشهرا لم ينفع معها دور الوسيط الأميركي، ونتيجة رفض الطرف الإسرائيلي التسليم باعتماد الخط 29. غير أن المشكلة التي أوقع لبنان نفسه فيها أنه كان عليه تعديل القرار 6433، ليضمّنه موقفه بتبنٍّ رسمي للخط 29 بدل الخط 23، ما يجبر الأمم المتحدة على التعاطي معه على هذا الأساس، تماما كما هي مشكلة مزارع شبعا التي تحتلها سورية منذ 1967، وترفض تقديم رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة تقرّ فيها بملكية لبنان هذه المزارع. وبالتالي تتعامل الأمم المتحدة معها على أنها مزارع سورية، وتعتبر المشكلة نزاعا بين سورية وإسرائيل وليس مع لبنان. وأمام دخول المفاوضات في مرحلة الشلل الكامل، أرسلت واشنطن مبعوثا أميركيا خاصا وخبيرا نفطيا، هو أموس هوكشتاين، وسيطا لإيجاد مخرج لهذه المفاوضات.
كيف للسلطة اللبنانية أن تخوض معركة حقوق وطنية وسيادية وهي منقسمة، وتتنازعها المصالح والحسابات الفئوية والضيقة؟
وكانت مسألة طرح ملف ترسيم الحدود في نهاية عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قد تزامنت مع وضع الإدارة السابقة عقوبات قاسية على رئيس التيار العوني وصهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، ما ترك ظلالا من الشكّ على موقف الرئيس ميشال عون الذي تمنّع عن تعديل القرار 6433 باستبدال الخط 23 بالخط 29، وتوقيعه وإرساله إلى الأمم المتحدة، كونه هو المخوّل، بحسب المادة 52 من الدستور، بإجراء المفاوضات وتوقيع المعاهدات الدولية، وذلك مسايرةً للأميركيين، وطمعا منه بأن تلغي الإدارة الأميركية العقوبات على صهره الطامح إلى أن يصبح رئيسا للجمهورية، بعد حماه عون الذي تنتهي ولايته بعد أقل من خمسة أشهر (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022). عندها وقع الوفد المفاوض في ورطةٍ، وخرج رئيسه، العميد بسام ياسين، محتجّا، ومعه معظم قوى الممانعة، ودبّ الخلاف والانقسام بين من يصرّ على تبنّي الخط 29، ومن يعتبر أن الإصرار يجب أن يكون على الخط 23، والباقي يخضع للتفاوض والمناورة. وهذا ما أدّى، بشكل خاص، إلى إحراج حزب الله الذي يقف مع الخط 29، ولكنه لا يريد، وليس بإمكانه، أن يحرج حليفه رئيس الجمهورية والتيار العوني الذي يؤمّن له غطاء سياسيا مسيحيا على الصعيد الداخلي، هو أحوج له اليوم بالتحديد أكثر من أي يوم مضى، بعد أن تراجعت شعبية العونيين في الانتخابات النيابية أخيرا، وتقدم حزب القوات اللبنانية بفارق كبير. وتشتد حاجة حزب الله للتيار عشية الانتخابات الرئاسية لتأمين وصول حليفٍ آخر له، يسعى، على الأرجح، إلى أن يكون سليمان فرنجية، رغم الضربة القاسية التي تلقاها الأخير في الانتخابات البرلمانية التي حصلت في 15 مايو/ أيار الماضي. وكان أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، قد جمع، لهذا الغرض، الحليفين اللدودين، باسيل وفرنجية، لديه ومصالحتهما. ولذلك، برّر الحزب صمته شبه الكامل كل هذه الفترة بالقول إنه يلتزم ما تقرّره الدولة والحكومة، لأن ذلك من صلاحياتها. وأمس، قال كلاما مشابها مع ارتفاعٍ في النبرة مفاده بأنه ينتظر أن تقول الدولة إذا ما كان ثمة اعتداء لكي يتحرّك. ولكنه يدرك، في العمق، أن لبنان الرسمي في ورطة، بعد أن قدم هوكشتاين، في زياراته المتكرّرة، حلا وسطا يمر عبر "خط متعرّج"، يتضمن حقل قانا الذي يصرّ عليه لبنان، ويقع بين الخطين 23 و29 وبعضا من حقل كاريش، ما أدّى إلى إرباك السلطة التي انقسمت حول الرد، وبقيت الأمور معلقة. فهي، من جهةٍ، لا يمكنها أن تطالب وتصرّ على الخط 29، لأنها لم تعتمده رسميا وأمميا، وللرئيس مصلحة في عدم اعتماده، وليس بإمكانها أو لا يريد بعضها أن يقبل بالحل الأميركي الوسطي المنحاز للمصالح الإسرائيلية. في المقابل، هناك من يعتبر أن هذا الإرباك والضبابية في الموقف تناسبا ضمنيا حزب الله الذي يسعى إلى إبقاء الأمور معلقة، وتحويل الحدود البحرية والخط 29 إلى ما يشبه "مزارع شبعا بحرية"!
سلاح لبنان الوحيد في المواجهة حاجة إسرائيل إلى ضمانات أمنية على الحدود البحرية، كي لا تنهار عملية التنقيب
ولكن، كيف للسلطة اللبنانية أن تخوض معركة حقوق وطنية وسيادية وهي منقسمة، وتتنازعها المصالح والحسابات الفئوية والضيقة، والتي تعود مرجعيتها إلى خارج الحدود؟! عندها، غادر هوكشتاين في فبراير/ شباط الماضي ولم يعد .. ومع وصول العائمة الإسرائيلية التي في وسعها أن تبدأ استخراج الغاز، وتبدأ في تسويقه، على الأرجح، في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، لأن مرحلة التنقيب قد انتهت وأصبحت الخيارات ضيقة وشبه وحيدة للاستفادة من فرصة ذهبية لانتشال لبنان من الانهيار الاقتصادي، عبر الإسراع باستخراج الثروة النفطية والغاز وتسويقها. وواضح أن ما ستقوم به إسرائيل الآن هو الضغط والتهويل، لأنها جهزت نفسها لكل الاحتمالات، فهل لبنان جاهزٌ للحرب؟ ومن أجل ماذا؟ أما سياسيوه فهم يتلهون بحساباتهم الصغيرة والضيقة والتافهة، وديماغوجيتهم وشعبويتهم التي يبدو أنها تلقى تجاوبا عند كثيرين. فيما تضامن المصالح والسلطوي قائمٌ من تحت الطاولة، وأيضا من فوقها بين مختلف الأحزاب والكتل المتخاصمة، كما هو حاصل هذه الأيام في مجلس النواب وخارجه، بغض النظر عن المزايدات والشعارات الطنّانة والرنانة، مثل المقاومة والممانعة والعروبة أو السيادة والحرية و..
أمام هذا المأزق، التجأت السلطة، برؤوسها الثلاثة (عون ونبيه برّي ونجيب ميقاتي) إلى هوكشتاين مجدّدا، وطلبت إليه أن يعود على جناح السرعة، لتفعيل وساطته، فوعدهم بهذا. وهذه المرّة، من الصعب أن يكون الرد سلبيا إذا لم يبادر مجلس النواب (بإيعاز من حزب الله) إلى إقرار صيغة تجبر الحكومة ورئيس الجمهورية على إقرار تعديل القرار 6433، وإرساله إلى الأمم المتحدة. في المقابل، تفيد المعلومات المسرّبة بأن هوكشتاين اشترط، هذه المرّة، الحصول على جواب خطّي مكتوب، وعدم البحث بالخط 29، كما أنه لن يقبل بمهل تفاوض مفتوحة. ليس أمام لبنان إذاً ترف الوقت، كما أن الظروف الإقليمية والدولية، من فيينا إلى أوكرانيا إلى سورية، وحتى في إيران نفسها، لا تلعب لصالح مواجهة إيرانية في المنطقة، ودفع حزب الله إلى مغامرة ما. سلاح لبنان الوحيد في هذه المواجهة هو حاجة إسرائيل إلى ضمانات أمنية على الحدود البحرية، كي لا تنهار عملية التنقيب. فهل ينجح هوكشتاين هذه المرّة؟