بمناسبة مؤتمر بازل .. الصهيونية تسير نحو نهايتها

31 اغسطس 2022

مشاركون في مؤتمر بازل للصهيونية العالمية (29/8/2022/فرانر برس)

+ الخط -

التأم في بازل بسويسرا، قبل يومين، أكبر تجمع للصهيونية العالمية في المدينة التي شهدت ميلاد هذه الإيديولوجية العنصرية قبل 125 عامًا، عندما عُقد فيها أول مؤتمر للصهيونية يوم 28 أغسطس/ آب عام 1897، ووضع الأساس لقيام الدولة العبرية عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية. كان ذلك المؤتمر جوابًا عن المعاناة التاريخية للشعب اليهودي لمواجهة حالة الخوف والضعف التي كان يشعر بها اليهود لأسبابٍ تاريخية ودينية واجتماعية واقتصادية، خصوصًا في المجتمعات التي تضطهدهم، لا سيما في الدول الغربية. ومن أشغال ذلك المؤتمر انبثقت الإيديولوجية الصهيونية التي تقوم على فكرة قومية عنصرية مفادها بأن اليهود مضطهدون في جميع أنحاء العالم، وحماية وجودهم لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود كيان يؤويهم، ولحمل اليهود على الإيمان بهذه الفكرة روّجت الصهيونية فكرة معاداة السامية لحمل اليهود على رفض الاندماج في المجتمعات التي كانت تضطهدهم لأسباب تاريخية أو دينية، ودفعهم، طوعًا أو كرهًا، إلى الهجرة إلى أرض فلسطين لإقامة دولة الخلاص اليهودية التي تكون فيها الأغلبية لليهود.
كانت منطلقات هذه الإيديولوجية تبدو أخلاقية، خصوصًا بالنسبة للشعب اليهودي في الشتات الذي عانى تاريخيًا من الاضطهاد، ولم ينعم قط بالوحدة والاستقرار، تقوم على فكرة تبدو توراتية طهرانية، تقول إن مواجهة ضعف اليهود ووقف نزيف معاناتهم التاريخية لن يتحققا إلا بتجسيد حلم قيام دولة يهودية ديمقراطية. وطوال سنوات القرن وربع القرن الماضية، نجح الفكر الصهيوني الذي استغلّ تاريخ الاضطهاد اليهودي وحالة الشتات والضعف التي كان يعاني منها شعبهم في كسب دعم الغرب المسيحي وتعاطفه لإقامة الدولة اليهودية الموعودة، لكنه فشل في تحقيق حالة الأمن والاستقرار لليهود داخل الدولة اليهودية الديمقراطية الموعودة، فالصهيونية التي حملت فكرة خلاص الشعب اليهودي المضطهد تحوّلت اليوم إلى أكبر عدو لليهود أنفسهم، وبات وجودها أكبر عائق للسلام في المنطقة. وإذا كان هذا الوجود اليوم ضارًّا بالفلسطينيين، فإنه سيصبح في المستقبل ضارًّا باليهود أنفسهم، وسيحمّلهم تاريخيًا مسؤولية مأساة اضطهاد الشعب الفلسطيني الذي مهما طال ظلمه سيجد ذات يوم طريق خلاصه هو الآخر.

لا يمكن أن يعيش الفكر الصهيوني بدون المبالغة في دور الضحية فجعل من معاداة السامية حصان طروادة لترويج أطروحاته العنصرية

سقطت الأطروحة الصهيونية، أخلاقيًا، منذ حرب عام 1967، فبالرغم من أن إسرائيل انتصرت في تلك الحرب، وقدّمت نفسها ضحية الأنظمة العربية التي كانت تسعى إلى رميها في البحر، إلا أن احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة وممارساتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني وقوانينها العنصرية أكثر من نصف قرن فتحت أعين أحرار كثيرين في العالم، بما في ذلك اليهود أنفسهم، على حقيقة الفكر الصهيوني العنصري والاضطهادي.
ولأن هذا الفكر الذي يقوم على الابتزاز لا يمكنه أن يعيش بدون المبالغة في الركون إلى دور الضحية، جعل من معاداة السامية حصان طروادة لترويج أطروحاته العنصرية والشوفينية وترسيخ فكرة "التفوق اليهودي" بإعلان إسرائيل دولة قومية لليهود فقط، وهي الدولة الوحيدة التي تجعل من ديانتها قوميتها. وهكذا نجحت إسرائيل بالابتزاز والضغط في جعل حكومات غربية عديدة تجرّم معاداة السامية التي أصبحت تفسّر في بعض الدول بانتقاد إسرائيل ومعارضة سياساتها القمعية ضد الفلسطينيين، وباتت الحملة ضد "معاداة السامية" تقيد الحرية في الدول الغربية بل وتهدّدها، ومبرّرًا لقمع الفلسطينيين وتشويه منتقدي إسرائيل في الغرب، بل وأصبحت بعض الأنظمة القمعية، خصوصًاً في منطقتنا العربية، تستعمل التبرير نفسه أمام الغرب لقمع معارضيها والتغطية على انتهاكها حقوق مواطنيها وحرياتهم. ولأن مفهوم معاداة السامية في العالم العربي لا يحمل الحمولة نفسها التي يكتسيها في الغرب، بتنا نسمع عن مفهوم جديد، هو خطاب الكراهية، والمقصود به غالبًا انتقاد إسرائيل وسياساتها العنصرية.

تقود إسرائيل حربا ضد التنظيمات الحقوقية الفلسطينية والدولية المناهضة لسياساتها العنصرية

لا علاقة لمواجهة الصهيونية وانتقادها بمعاداة السامية، السلاح المسموم الذي توجهه إسرائيل واللوبيات الصهيونية في العالم لكل منتقدي السياسات العنصرية ونظام الأبارتهايد الذي تطبقه الدولة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية، وهو ما كشفت عنه تقارير حديثة لمنظمتي هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، اتهمت إسرائيل بالاضطهاد وارتكاب جرائم الفصل العنصري، وذهبت منظمة "بتسيلم"، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية غير حكومية، إلى وصف إسرائيل بأنها "دولة فصل عنصري" تدير نظام "تفوّق يهودي". وكان الرد الإسرائيلي واللوبيات الداعمة لها اتهام هذه المنظمات الحقوقية بتغذية مشاعر معاداة السامية في جميع أنحاء العالم، وهو ما يفسّر الحرب التي تقودها إسرائيل ضد التنظيمات الحقوقية الفلسطينية والدولية المناهضة لسياساتها العنصرية، والتي لا تختلف، في مستوى تدنّيها الأخلاقي، عن ردود أفعال الأنظمة القمعية التي تشوّه سمعة جماعات حقوق الإنسان التي تنتقد سياساتها.
نشرت صحيفة واشنطن بوست، في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، مقالًا لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي، رونالد لودر، يحذّر فيه من أن إسرائيل تواجه تهديدًا وجوديًا، ليس بسبب السلاح النووي الإيراني، وإنما من النمو الديمغرافي المتزايد للفلسطينيين الذين باتوا يتفوقون عدديًا على الإسرائيليين، وهذا الفارق سيزداد مستقبلًا لصالح الفلسطينيين، ما سيضع الدولة العبرية أمام تحدٍّ كبير في مواجهة مطالب الفلسطينيين بالحصول على حقوقهم. وبرأي الكاتب، تتبنّى عقلية المواجهة لدى الجيل الناشئ من الفلسطينيين فكرة الدولة الواحدة، التي يصفها الكاتب بـ "كارثة الدولة الواحدة"، والتي ستُنهي، في حال تطبيقها، وجود الدولة اليهودية. وينهي رئيس المؤتمر اليهودي العالمي مقاله بالتحذير من أن أكبر تهديد للمشروع الصهيوني هو التهديد الديمغرافي الذي يقرّب إسرائيل كل يوم من الهاوية، لأنه سيقضى على حلم قيام "الدولة اليهودية الديمقراطية" التي بشّر بها الآباء المؤسّسون للفكر الصهيوني في مدينة بازل السويسرية قبل قرن وربع قرن من الزمان.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).