بلى، الإصلاحُ الديني يردعُه
(إلى زياد ماجد)
ليس هناك من مسلم لا يشعر بالذلّ والمهانة. ليس هناك من عربيّ لا يحسّ أنه مستلبٌ ومجروح في كرامته. ليس من أقلّيةٍ دينيةٍ وإثنيةٍ في منطقتنا لم يجرِ التنكيلُ بها والاعتداء عليها وسلب حقوقها، وصولا إلى حدّ ارتكاب جرائم من تلك التي توضع في أعلى قائمة الجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، نحن قادرون، في عالمنا المجرَّب والممتحَن يوميا، أن نجد مبرّرا لمن قاموا بمقتلة جماعية عام 2015، في باريس، ضد الذين نشروا الرسوم الغبية (مجلة شارلي إيبدو) التي شاعت تسميتها "الرسوم المسيئة للنبيّ"، أو "الرسوم المسيئة للإسلام"، وارتكبوا أعمال ذبح بحق أستاذ تاريخ، ومن ثم بحق امرأتين بريئتين تصلّيان في كنيسةٍ في مدينة نيس ورجلٍ يخدم فيها. نبرّر ونقابل بصمتٍ ونتضامن بشكل خفيّ مع من عاقب واقتصّ بالقتل ذبحا وطعنا وهجوما بالرصاص، وقد تنفلتُ ألسنتُنا بالتشفّي والوعيد بما هو أعظم على جدران العالم الافتراضيّ.
في مقالته المنشورة أخيرا في صحيفة القدس العربي، كتب أستاذُ العلوم السياسية والكاتبُ الصديق، زياد ماجد، مقالة بعنوان "القتل بالسكين الذي لا إصلاح دينياً يردعه ولا نهاية قريبة لمسلسله"، موردًا، عن حقّ، لا جدوى النقاش مع اتجاهين سائدين عربيا: الأول تبريري، حمّل فرنسا وعلمانيّتها المتشدّدة وتاريخها الاستعماري وقوانينها المسؤولية الأولى، فيما استنكر الثاني الجريمة منزّهاً "الإسلام الحقّ والمسلمين عن المقتلتين". هذا وقد أضاف اتّجاها ثالثا نخبويا رأى ضرورة السجال معه، وهو الاتجاه الذي يركّز على الإسلام "بوصفه منظومة دينية وسياسية مأزومة ومولّدة للعنف، إن في المجتمعات المسلمة أو عبر الحدود"، ما يتطلّب إصلاحا دينيا لا يرى ماجد أنه سيردع الشبّان المسلمين "التائهين في هويّاتهم الجمعية وإخفاقاتهم الشخصية"، وقد بات لهم منفذ على المخيلة الجهادية كما يسمّيها، تلك التي تتيح لهم أن يستردّوا بالعنف اعتبارهم الذاتي ويدخلوا عبر الشهادة أبوابَ الجنة.
لكن، ما قد يكون فات الكاتبَ هو إدراكُ ذاك المسلم الشاب، لا بل يقينه، وهو يهتف "الله أكبر" إبّان الانقضاض على ضحيّته، من نجاحه المؤكّد في إبلاغ رسالتين مدوّيتين متضاربتين: الأولى ضد جماعة معتدية متمثّلة بالضحية، وهي هنا فرنسا الآثمة، ومن خلفها الغرب المعتدي، ومن ورائهما الحضارة المسيحية المهيمنة والكافرة، والثانية باتجاه "جمهور" مسلمٍ ستلقى لديه "شهادتُه"، وليس جريمته، رضًى وقبولا واستحسانا، لأنها الردّ على إساءةٍ بالغةٍ طاولت وتطاول أمّةً تُعدّ بالملايين ونبيَّها. أجل، في خلفية تفكير مرتكب جرائم الذبح والطعن، الهاتف بالتكبير معلنا جهاده ضد الكفرة والمارقين، أمّة كبيرة ينتمي إليها، ويستقوي بها، ويسلك باسمها وباسم دينها.
وبالفعل، "هؤلاء، لا إصلاح دينياً، ولا إقفال مساجد، ولا إجراءات أمنية، ولا رصد تمويل (لا يملكونه أصلاً) يمكن أن يحول دون إخفائهم سكّين مطبخ، وطعنهم مارّة في شارع في باريس أو في أي مكان في العالم"، كما يكتب زياد ماجد، لكنّ إصلاحا دينيّا عميقا وضروريا، سيكون كفيلا بتطوير عقليات جماهير المسلمين ومسالكهم ومواقفهم من أنفسهم ومن الآخرين. أجل، فمعانٍ كالتسامح والعدالة والحقّ واحترام الغير وثقافته ومعتقداته لا بدّ أن تجعلهم يلتفتون إلى مكامن الخلل في عقلياتهم ومعتقداتهم ومجتمعاتهم، بحيث لا يتقبلون ظلما أو اعتداءً بحق الآخر، مسلما كان أم لا. وتذكيرا بما يهدف إليه الكلام، لا بد لنا من استحضار تنظيم داعش وممارساته الإجرامية الهمجية، وموقف مؤسسة دينية بعظمة جامع الأزهر ووزنها عندما صرّح شيخُها عام 2015 بعدم جواز الحكم على التنظيم الإسلامي بالكفر، حتّى لو ارتكب كلّ الفظائع، طالما أنه "لا يخرجكم من الإيمان إلا إنكار ما أدخلت به".. أما آن الأوان بعدُ لمعارضة سلطة النصّ المطلقة، وإتاحة المجال أمام المفكرين ورجال الفقه التنويريين، ليُعملوا عقولَهم فيه؟ بلى، لقد آن الأوان لوقف تعميم ثقافة الكراهية ونبذ الآخرين المختلفين عنّا دينيا وحتى مذهبيا، وهذا ما تمارسه للأسف مؤسسات دينية، بدلا من نشر ثقافة التسامح والانفتاح.
حين ترفعُ عن "حامل السكين" غطاءه، وحين تكشف ظهرَه، مُفرغا ساحةَ الوغى من الجموع المحتشدة من خلفه، سوف تُثقل يدَه رافعةَ السكّين، وربما شللتَها كلّية.