بلبلة الانتخابات في بلاد بابل

16 أكتوبر 2021
+ الخط -

حظيت الانتخابات البرلمانية العراقية التي انتظمت أخيرا باهتمام واسع، وذلك لما للانتخابات من انعكاس مباشر على المعادلات السياسية وموازين القوى الداخلية، وتحديد وجهة العراق في المرحلة المقبلة، مرحلة اكتمال الانسحاب الأميركي من العمليات القتالية، ومحاولات هذا البلد النأي بـ"نفسه" عن التجاذبات العنيفة التي تحكم مسار الإقليم، وعن تصفية الحسابات بين إيران وأميركا على أراضيه ومراكزحدوده.

وقد تبدّى بعض هذا الاهتمام بمتابعة نحو مائة مراقب أوروبي و60 دبلوماسياً أوروبياً لهذه الانتخابات، وتنويههم الإيجابي بمجرى العملية الانتخابية، إلا أن المفارقات التي حفّت بهذه المناسية سرعان ما برزت مع انخفاض نسبة الاقتراع إلى 41%، وهي من أقل النسب التي شهدتها الانتخابات العراقية منذ العام 2003. والراجح أن نسبة التصويت الضعيفة لم تتم استجابة لدعوات المقاطعة إلا بصورة جزئية، فالجمهور العراقي العريض أبدى يأسه وازوراره عن المشاركة، نتيجة إدراكه الحسّي أعطاب الحياة السياسية، وفي مقدّمها استشراء الفساد بصورة مهولة، ثم اضطراب حبل الأمن مع وجود نحو 67 مليشيا مسلحة، أغلبها تتبع لإيران. وهنا المفارقة الثانية في أن هذه الأذرع المسلحة قد خاضت الانتخابات ترشيحا واقتراعا، على الرغم من أن القانون يحظر مشاركتها! وعليه، لم يكن مستغربا أن ترفض هذه المليشيات نتائج الانتخابات التي لم تتفق مع طموحاتها، وأن تلوّح بالعنف ضد نتائجها، فوجود هذه المليشيات يقوم أساساً على تغييب القانون ومخالفته، والاحتكام إلى ترهيب السلاح الذي تحوزه، وتنازع القوات المسلحة والقوى الأمنية في حق حيازته. ومعلوم أن الاتهامات وجّهت إلى هذه الأذرع باستهداف المحتجين الذين سقط منهم ستمائة ضحية وإصابة بضعة آلاف على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، من دون أن تمتد يد العدالة لمعاقبة الجناة.

حركة الاحتجاجات الشبابية أوقدت جذوة الأمل في النفوس، وخصوصا لدى الأجيال الجديدة، وبالذات لقطاع النساء اللواتي شاركت بكثافة

وعلى الرغم من الملابسات التي أحاطت بالعملية الانتخابية وموقعها في العملية السياسية، إلا أن القوى الشابة، قوى المحتجّين الذين يوصفون بالتشرينيين، شاركت في الانتخابات، وذلك نتيجة الشعور بانسداد الآفاق والحاجة إلى اختراق ما، بل إنها نجحت في تبكير موعد الانتخابات، وقد حققت بالفعل بعض النتائج في عداد المستقلين الفائزين (15 مقعدا في حصيلة أولية)، بينما قاطعتها قوى أخرى، أبرزها الحزب الشيوعي، أقدم الأحزاب العراقية.

وبينما يكتفي خاسرون في الانتخابات بتقديم طعون، في شتى الدول، فقد انبرى الخاسرون من المليشيات إلى القيام باستعراضات مسلحة، وتوجيه حملة تخويف إلى مفوضية الانتخابات. وعلى الرغم من أن المليشيات التي تنضوي أساسا في تكتل الفتح قد أضافت بضعة مقاعد إلى صفوف الفائزين مع استكمال عمليات الفرز، إلا أن أجواء التوتر لم تهدأ. وقد انضمت قوى أخرى إلى الساخطين، مثل ائتلاف "الوطنية" بقيادة إياد علاوي، الذي حظي بمقعد واحد في هذه الانتخابات، مقابل 19 مقعدا في المجلس النيابي المنصرف، وكذلك تكتل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي "النصر"، مع تيار عمّار الحكيم "الحكمة"، وكان لافتا قول أحد قادة الأخير إن تياره نادمٌ على التحالف مع تيار العبادي.

بينما يكتفي خاسرون في الانتخابات بتقديم طعون، في شتى الدول، فقد انبرى الخاسرون من المليشيات إلى استعراضات مسلحة

وفي الحصيلة، عكست هذه الانتخابات حال الانقسام والبلبلة التي يعيشها الشارع العراقي منذ أمد طويل. وليس سرّا أن الآمال والأشواق التي أطلقتها حركة الاحتجاجات الشبابية قد أوقدت جذوة الأمل في النفوس، وخصوصا لدى الأجيال الجديدة، وبالذات لقطاع النساء اللواتي شاركت بكثافة في الاحتجاجات، وهو ما يفسّر إقبال زهاء 900 مترشّحة على خوض الانتخابات، وقد فازت منهن 97 مترشّحة، ونحو الربع منهن على نظام الكوتا. وفي الوقت ذاته، لم تنخفض وتيرة اليأس لدى قطاعات وشرائح أخرى، بل ارتفعت، وهو ما تدلّ عليه نسبة المشاركة المتدنية ودعوات المقاطعة. فيما أظهرت هذه المناسبة الواقع الطائفي وكرّسته، فقد صعدت قوى سنّية، عبر قائمتي "تقدّم" برئاسة محمد الحلبوسي و"عزم" برئاسة خميس الخنجر. فيما حافظت القوى الشيعية على أرجحيتها، مع فرق أن تكتّل مقتدى الصدر قد حقق، هذه المرّة، تقدّما إضافيا، باحتلاله المركز الأول بـ73 مقعدا على حساب القوى الأخرى. ويوصف الصدر بالمعتدل والمنفتح وطنيا، وذلك جنبا إلى جنب مع تقلباته السياسية شبه الدائمة، وكذلك تقلّبه بين خوض المعترك السياسي والزهد فيه، غير أنه يبقى، في النهاية، خارج النواة الأيديولوجية الصلبة التي تدين بالولاء لإيران، وهو ما جذب إليه كتلةً عريضةً من الناخبين من داخل طائفته ومن خارجها. وعلى الرغم من النتيجة الباهرة التي حقّقها، فإن في وسع المرء المجازفة بتوقع أن الطريق لن يكون مفتوحا أمامه وأمام تياره لتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة مصطفى الكاظمي الذي لم يترشّح للانتخابات، فالدستور لا يحسم في أمر المؤهل لتشكيل حكومة. وسوف تنشط جهود متضافرة من المتضرّرين لقطع الطريق أمام التيار الصدري لتشكيل حكومة، ومحاولة تكرار سابقة قطع الطريق على فوز إياد علاوي بانتخابات 2010، إذ رفض منافسه آنذاك، نوري المالكي، نتائج الانتخابات، ورفض تسمية علاوي رئيسا للحكومة، وطالب بإعادة الفرز اليدوي، وكان أن أعيد الفرز وتم التثبت من فوز علاوي. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوقف السعي المستميت للمالكي للقفز إلى رئاسة الحكومة، وقد كان له ما أراد عبر "صفقةٍ"، منح علاوي بموجبها منصبّا في هيئةٍ مستحدثةٍ باسم "مجلس السياسات"، وهو مجلسٌ لم ير النور.

وعلى الرغم من أن المالكي حلّ، هذه المرّة، في المركز الثالث بـ37 مقعدا، إلا أن من المتوقع أن يسعى إلى العودة إلى رئاسة الحكومة، مستغلاً المزاج السياسي المتقلب لمقتدى الصدر، وميله إلى الاندراج في صفوف المعارضة، لا في أوساط الحكم، وعدم إمكانية إسناد رئاسة الحكومة إلى شخصية سنية (الحلبوسي صاحب المركز الثاني)، وإذا لم يتيسّر ذلك، فسوف يسعى المالكي إلى الاستحواذ على حقائب سيادية، مثل الداخلية والدفاع والخارجية وغيرها، ومن المتوقع أن يتعرّض الصدر لضغوط شرسة، تبدّت بعض مظاهرها مُبكرا في التهديد بإحراق مقرّاته احتجاجاً على النتائج، وعقابا على فوز تياره في هذه الانتخابات. وفي جميع الأحوال، سوف يكون مخاض تشكيل الحكومة طويلا وولادتها عسيرة، وقد تشهد البلاد خروقا أمنية، وذلك ضمن سياسة الترهيب والابتزاز التي دأبت قوى الأمر الواقع على اتّباعها لفرض أجندتها على عموم العراقيين بكل السبل، وخصوصا غير المشروعة منها.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.