"بلبطة" سياسية تحت المطر
و"البلبطة"هي مفردة عبقرية من العامية المصرية، تعبر عن حالة ادعاء قدرات خارقة، متوهمة، على السباحة، يمارس صاحبها العوم في وعاء كبير داخل المنزل، أو في حفرةٍ تمتلئ بمياه الأمطار، في ضرب عشواء بيديه على الماء، حتى يصل إلى لحظةٍ يتخيل معها أنه يعبر المحيط.
حدث شيء من ذلك مع غرق حي التجمع في القاهرة الجديدة في مياه السيول، حيث داهمت المياه المساكن الفاخرة لعلية القوم، وملأت السيارات المحبوسة على طرقٍ تعطلت وتهدمت وتقطعت السبل بالعابرين فيها، فلم يجدوا مغيثاً.
وهنا بدأت ألوان من "البلبطة السياسية"، تحول معها موضوع الخلاف مع عبد الفتاح السيسي إلى أنه فاشل يقود نظاماً فاشلاً، لم يستطع الصمود أمام ساعتين من المطر الغزير، وتنافس المتنافسون في بيان سقوط وعود عبد الفتاح السيسي ببناء دولةٍ تحقق الإنجازات تلو الإنجازات، بمعدلاتٍ تفوق سرعة التهام كيس من المقرمشات.
وهكذا تحولت أمطار حي الأثرياء إلى القضية المركزية الأولى في مصر، وجرت أنهار من التعليقات والتحليلات والانتقادات، على نحوٍ تجاوز ما كُتِبَ عن كارثة جفاف النيل وخراب الزراعة والاغتيال البطيء لعشرات آلاف من المحبوسين في الزنازين، وتدمير سيناء بالحرب المسعورة على ساكنيها، وإغراق المستقبل في مستنقعات الديون والقروض، والتنازل عن الأرض بالبيع.
مياه الأمطار تقود جبهة إسقاط الانقلاب.
وأظن أن عبد الفتاح السيسي يجلس سعيداً مطمئناً الآن، وهو يتابع المعسكر الرافض له يمارس "البلبطة"، متناسين أن الخلاف مع السيسي ليس مياه المطر، وإنما دماء البشر، وليست المشكلة أنه فاشل، بل قتل شعباً وثورة وصادر حريات ودمر كرامة إنسانية، وأهان كبرياء وطن كبير.
السيسي، شخصياً، يمكن أن يقول أكثر مما قال العائمون في مياه السيول عن كوارث البنية الأساسية، بل أن سبقهم إلى ذلك مبكراً جداً، حين تحدث عن "شبه الدولة"، وكرر مرات عديدة أنها خرابة، وأنه جاء ليصلح ما أفسده السابقون، مانحاً نفسه وضعية الضحية، ولاعباً على أوتار التحمل والصبر، ومن ثم لم يفوّت فرصة الغرق في الأمطار، ليشارك هو الآخر في مهرجان "البلبطة"، مستغلاً الموقف لإطاحة حفنةٍ من القيادات، وتثبيت أخرى مكانها من الأقرب ولاءً والأكثر بطشاً، فاتحاً الطريق للمؤسسة العسكرية، لكي تتوغل أكثر في مفاصل شبه الدولة.
ويستطيع، كذلك، عبر إعلامه الغزير، أن ينقل المسألة إلى المساحة التي يفضلها، فيعلق المشكلة في رقبة الإخوان، ويصبح الموضوع الأساس هو شماتة "الخونة والعملاء" في المواطن المصري، كما يمكنه، على طريقته الاستعراضية المحفوظة، أن يعلن عن مشروعٍ ضخم لترويض السيول والكوارث الطبيعية، ثم تبدأ الجوقة في العزف والغناء، على إيقاعات العسكرة. والأهم من ذلك كله أن تتصاغر القضية من كونها موقفاً مبدئياً ضد سلطةٍ تحكم بالغصب والقرصنة والعسف، إلى مجرد معارضةٍ واحتجاج على أدائها اليومي.
وفي ذلك، لا بأس من التذكير بجوهر القضية الذي يتعرّض للمحو بالتقادم. وكما قلت سابقاً فإن الخلاف مع سلطة عبد الفتاح السيسي لا يتعلق بأدائها البليد المهين لمصر، تاريخا وشعبا، وإنما ينطلق من أن هذه سلطةٌ ولدت سفاحا، لا شرعية أخلاقية، أو سياسية، لها، كونها جاءت سطوا مسلحا على أول اختيار ديمقراطي في تاريخ المصريين. وارتكبت جرائم قتل بحق آلاف من البشر، وصادرت حريات عشرات الآلاف آخرين، ومارست تعذيباً وسحقاً لكرامة الناس، بحجة بناء الدولة.
أخيراً: ليس ما سبق إنكاراً أو استعلاءً على قضايا الناس اليومية، كل ما في الأمر أن النضال من أجل نيل الحقوق الاجتماعية لا يصحّ أن ينفصل عن النضال، طلبا للحرية والكرامة والحق والخير، طلبا لقصاصٍ عادل يصون حقوق الدم، وحدود الأرض.