بعيداً عن كل شيء
أرتاب في كل شي تقريباً، رغم أني لا أتعاطى أي حبوبٍ مهلوسة. لذلك، لا أعرف سبب تحوّل القطّة السوداء الصغيرة إلى نمر غاضب. لا يحدُث ذلك دائماً، لكنه يحدُث في أحيان كثيرة. اليوم مثلاً، ظلت على حالها، ولم تصبح نمراً مخيفاً. يضحك الجار الودود متعجّباً من رعبي، ويقرفص على الأرض ممسّداً جسد القطّة، وهو يردّد أنها مجرد كائن مسكين ضعيف. أحدّق في وجهه ملياً، تختفي على نحوٍ مباغتٍ ملامحه الوديعة المسالمة، وتظهر أنياب من زوايا فمه، تماماً مثل الكونت دراكولا، لكن من دون عباءته السوداء. يغرز أنيابه الحادّة في عنق القطّة، ويمتصّ الدم بتلذّذ، فتموءُ من شدّة الألم ويتلطّخ وجهه بالدم.
أهرب حيث سيّارتي، لونُها أسود مثل القطّة الجريحة تماماً. ما إن أجلس خلف المقود، حتى ينطلق صوتها مؤنباً. نعم، السيارة تتحدّث إليّ دائماً. ما الغريب في ذلك؟ قالت غاضبة: لماذا تتأخّرين دائماً؟ تركتِني تحت أشعة هذه الشمس اللئيمة طوال النهار؟ ألا تلاحظين أن طلائي الأسود اللامع بدأ في التقشّر. أنت المسؤولة عن ذلك، لو لم تكوني جبانة، لطالبتِ بحقّك في موقفٍ في مرأب البناية مثل سائر السكان. أحاول أن أشرح لها أنني شخصية مسالمة، لا أحبّ افتعال المشكلات، وأحرص على علاقاتٍ طيّبة مع الجيران. تزمجر غاضبة، ويتحشرج محرّكها، ما إن أضع المفتاح وأشغلها.
أنطلق لزيارة أبي، كما أفعل كل صباح يوم جمعة. أشتاق إليه كثيراً، ولا تهدأ نفسي إلا حين أجالسه، فهو مستمع جيد. يتفهّم كل ما يصدر عني من أفكار، ولا يطلق عليّ أي أحكام مهما تصرفت برعونة. أتذكّر ابتسامته الغامضة، حين سألتُه مرّة: أين اختفت أجنحتي؟ أذكر تماماً أنني امتلكتهما منذ صغري. كنت أرفرف بهما وأحلّق عالياً في فناء بيتنا القديم، فيملأ صوت ضحكاتي الفضاء، رغم تحذيرات أمي التي لم أستمع إليها يوماً. بدلالك، فيما أواصل طيراني غير عابئة بشيء.
تصرخ قائلة: اهبطي أيتها المجنونة. عليك الاستعداد للامتحان غداً. سوف ترسُبين من جديد. هي صدّقت المرشدة النفسية، حين قالت لها إنني مضطربة نفسياً، وأخذت بنصيحتها واقتادتني إلى عيادة الطبيب. أخضعني لعدة جلسات، سألني فيها أسئلة غبية، ثم وصف لي أدوية كثيرة. بعدها بدأت أجنحتي بالتلاشي شيئاً فشيئاً، وصرت بالكاد أقوى على المشي. وهَن جسدي واستقرّ حزنٌ ثقيلٌ في روحي. لم أعد أرغب في مغادرة حجرتي. أجلس ساعات طوالاً أحدّق في السماء، وأحسد الطيور التي لم تفقد أجنحتها، وظلت تحلّق عالياً من دون أن يُعاتبها أحد أو يتهمها بالجنون، أو بالذُّهان العقلي على حد تعبير الطبيب الذي شخّص حالتي.
أوقفني شرطي المرور مبتسماً. قال لي: أنتِ تقودين السيارة ببطء شديد، وهذه مخالفة، لأنك تعرقلين حركة المرور. قالت السيارة بعصبية: أخبريه أنك تتركينني طوال النهار تحت حرارة الشمس، وتظلين قابعة في البيت، تجلسين وحيدة ساعات طوالاً، مذعورة من كل شيء، تثرثرين مع أشخاصٍ غير مرئيين، ولا ترغبين في رؤية أحد. ... توسّلتها أن تصمت، وألّا تُحرجني أكثر من ذلك. قال الشرطي مستغرباً: هل قلت شيئاً؟ اعتذرت منه ووعدته بأن ألتزم السرعة المحدّدة. انطلقتُ بسرعة لم أعتدها من قبل. اعتذرت لأبي على التأخير، حدّثته عن سيارتي الثرثارة والشرطي اللطيف الذي لم يحرّر لي مخالفة. قال أبي هامساً: وما حاجة امرأة مثلك للسيارة الحمقاء؟ استخدمي أجنحتك، يا صغيرتي، فهي ما زالت صالحة للطيران. بكيت طويلاً وأنا أحتضن شاهد القبر، وأسقي شجرة الزيتون التي تظلله، وأزيل الأوراق الجافّة التي تغطيه. وأجلس طويلا ساهمة بانتظار أن تنبت أجنحتي من جديد، كي أحلّق بهما بعيداً عن كل شيء!