بعض أسرار الكتابة... البحث عن الجوهر
لا أدّعي أنّي أملك أسرار الكتابة الإبداعية كلّها، وأظن أنّ لا أحد يدّعي ذلك مهما أوتيَ من همّة في الكتابة، ذلك أنّ الكتابة الإبداعية سرٌّ حقيقيٌّ، بل هي أسرار كثيرة، قد ندرك بالوعي بعضها أو بالمحاولة والخطأ. لكنّها موهبة بالتأكيد، وهي أيضاً تمرين وتدريب مستمرّان على التقنيات التي تتكشَّف للكاتب الموهوب تدريجياً، سطراً بعد سطر، فلا ينبغي أن نركن لحقيقة أنّ الإبداع أصله موهبةٌ ونهمل صقل هذه الموهبة أو رعايتها أو حتّى تهيئة البيئة الحاضنة لها. ففي عالم الكتابة، سواء أكنت كاتباً محترفاً أم هاوياً، فإنّ إتقان التقنيات الأساسية للكتابة أمر بالغ الأهمّية. هذه التقنيات تُشكّل الأساس الذي ينبني عليه أيُّ عمل كتابي ناجح، من الروايات إلى المقالات الصحافية، وحتّى المُحتوَى الرقمي.
أوّل هذه التقنيات إجادة القراءة، والانغماس فيها دائماً، فلا يوجد كاتب لا يقرأ. والقراءة تكون في المجالات المتاحة كلّها، أي ألّا تقتصر على الموضوع المراد الكتابة فيه وحسب. أتذكر هنا على سبيل المثال أنّ الشاعر الراحل محمود درويش كان مدمناً قراءة القواميس والمعاجم اللغوية، وشتّان ما بين الشعر والقاموس، ومع هذا فهو يعتقد أنّ انكبابه على قراءة القواميس أثر في لغته الشعرية، وأغناها كثيراً، وخصوصاً في آخر دواوينه.
من التقنيات المهمّة الأخرى لكتابة أفضل، الإلمام بقواعد اللغة والنحو، وهذا أساسٌ لا غنى عنه. فاللغة أداة الكاتب الأولى، وهي هدفٌ وعنصرٌ جمالي أيضاً، والتحكّم في قواعدها يُمكّن الكاتب من صياغة جمل وعبارات واضحة وسليمة، بل وجميلة. كما أنّ معرفة علامات الترقيم وكيفية استخدامها بطريقة صحيحة يُساعد في إيصال المعنى بشكل دقيق. لكن ينبغي ألّا يشعر الكاتب الموهوب بالإحباط إن لم يصل إلى درجة الإتقان في علم النحو والقواعد اللغوية. الأساس الأوليّ يكفي في البدايات، ولا عيب في الاستعانة بمن يراجع ويُدقّق لاحقاً.
علاوةً على ذلك، تُعتبر تقنية التنظيم والتخطيط مفتاحاً لكتابةٍ إبداعيةٍ مُنسجمةٍ ومترابطةٍ وخصوصاً في القصّة القصيرة والرواية. وهذا يعني تحديد الفكرة، فوضع هيكل عام للموضوع، ثمّ تحديد النقاط الرئيسة والفرعية، ورسم الشخصيات في حالتي القصّة والرواية، والربط المنطقي بينها، ممّا يُسهّل على القارئ متابعة السرد أو الحجج المطروحة، وصولاً إلى نقاط التنوير المُتعارَف عليها في ذهنية القارئ.
وللكتابة الجذّابة والذكية أيضاً، لا بد من إجادة تقنيات السرد والوصف وبناء الحوارات. فاختيار الكلمات المناسبة، ورصف الجمل وفق نَسَقٍ إيقاعي خفي، وتوظيف الحوارات والإيماءات الجسدية والتوصيفات كلّها في صالح الفكرة العامة، عناصر تسهم في إنشاء صورةٍ حيّةٍ وممتعةٍ في ذهن القارئ، وتجعله مُنجذِباً لما يقرأ متابعاً فيه.
كذلك، لا ينبغي إغفال أهمّية تقنيات المراجعة والتحرير والتدقيق والتنقيح وإعادة الكتابة أكثر من مرّة في أوقات متباعدة. فالكتابة الجيّدة لا تأتي دفعةً واحدةً، بل هي عملية تكرارية تتطلّب القراءة المتأنّية للنصّ والتعديل والإضافة حتّى الوصول إلى الصيغة النهائية المتماسكة. صحيح أنّ البدايات في الكتابة الإبداعية غالباً ما تأتي دفقةً واحدةً، وربّما تكون غامضةً وغير مُحدَّدةٍ، وخصوصاً في الكتابات الشعرية، إلّا أنّ الصيغة النهائية تمرّ بخطوات كثيرة، ربّما لا يشعر بتتابعها الكاتبُ المتمرّس نفسه، نتيجةً لاعتياد فعل الكتابة.
وإتقان تقنيات الكتابة المختلفة هو ما يُميّز الكُتّابَ المُحترفين من غيرهم، والأعمالَ الأدبية ذات الجودة العالية من غيرها. فكثيرون جدّاً الذين يكتبون، ولكن قليل جدّاً ممّا يكتبونه يمكن أن نصفه بالإبداع. المهم أن يؤمن الكاتب بالكتابة، وأن يستمرّ في المحاولة، وألّا ييأس أبداً بحثاً عن السرّ والجوهر فيها.