بشير الجميّل في منزل يوسف الخال
حدث في مثل هذا اليوم قبل 42 عاما، 14/9/1982، أن رئيساً للبنان كان قد انتخبه مجلس النواب (؟)، اسمُه بشير الجميّل، اغتيل في تفجير مدوٍّ، أياماً قبل موعد أدائه اليمين. ومعلومٌ أن هذا الشاب (قتل عن 35 عاما) كان زعيم واحدةٍ من أقوى مليشيات الحرب الأهلية، والذائع عنه قسوتُه ودمويّته ضد خصومه الكثر، وعلاقتُه بإسرائيل التي ساهمت جيّداً في تسليح قواته، وقد مثّل عنواناً لما سُمّيت الانعزالية اللبنانية اليمينية المسيحية، والتي واجهتها الحركة الوطنية اللبنانية بإسنادٍ فلسطينيٍّ مسلح. وبسببٍ من هذا الأمر (وغيره)، سيّجَ صورة بشير الجميّل نفورٌ لبنانيٌّ وفلسطينيٌّ وعربيٌّ واسعٌ منه، وهو الذي ما صار رئيساً إلا بالتغلّب، وبإخضاعه، بارتكابات مليشياوية عنيفة، تمثيلاتٍ لبنانيةً، يتشابه بعضُها معه. على أن هذا لا يغيّب أن لبنانيين عديدين، وبينهم نخبٌ مثقفة، و"متطرّفة" في نزوعها إلى الحداثة والحريات والمدنيّة، ناصرت هذا الرجل، ورأت فيه خلاصاً ممكناً من فوضى الفلتان في لبنان، في غضون الحرب الأهلية خصوصاً.
الشاعر اللبناني (سوري المولد)، يوسف الخال (1987) أحد رايات الحداثة الشعرية في المشرق العربي، وممن لم يروا التباساً بين أن يكونوا متيّمين ببشير الجميّل ودُعاةً إلى الحرّيات الفردية والعامة. لم يكترث، وبعض نخبة لبنانية مثقفة (ضيّقة؟) من أهل الأدب والفن، في حينه، بما توسّله الزعيم المليشياوي، من عنفٍ لبلوغ أغراضه وتلبية طموحاته المطعّمة بالخطاب إياه عن لبنانٍ قوي متفرّد. وغايةً في الأهمية، بشأن الرائد في قصيدة النثر العربية، والذي أنشأ المجلة الطليعية "شعر"، أن نقرأ ما جاءت عليه زوجتُه (الثانية)، الشاعرة والرسّامة (السورية)، مها بيرقدار الخال، في كتاب مذكّراتها "حكايا العراء المرعب" (دار فواصل ودار مجلة شعر، بيروت، 2024)، عن إعجابه الوفير (وإعجابها هي الراوية أيضاً)، ببشير الذي زاره في بيته، واغتبط بلا حدود يوم اختير هذا رئيساً. وقد يتفهم واحدُنا ميلاً لدى صاحب "البئر المهجورة" إلى ما كان يُشهره الزعيم المسيحي الأقوى في لبنان، في غضون "حرب المجانين" (بتسمية الخال) الأهلية، عن لبنانٍ آخر يشتهيه، غير أن من العسير، ربما، أن يُتفهَّم صمتُه عن النزوع الدموي، والمخيف، لدى هذا المليشياوي، وإغماضُه عينيْه عن تصفياتٍ وجرائم اقترفها المحاربون عند هذا الرجل في خصومٍ له، وذلك إذا ما استبعدْنا تحالفه الوثيق مع إسرائيل. إلا إذا وجدنا شيئاً من التفسير لهذا الأمر في قول مها بيرقدار عن زوجها إنه "شرسٌ وقاسٍ بعض الشيء"، وإنْ لا تُنكر طيبتَه.
يُحدّث يوسف الخال زوجتًه عن بشير إنه يحبّه أكثر من أولاده، ويخافُ عليه أكثر مما يخاف عليهم "لأنه أجمل وأكبر من أن يكون حقيقة!، لأنه جمع في شخصيّته الإقدام والإيمان والاندفاع، وعشق الوطن وطهارة اليد والنفس". ... يزور هذا حفل توقيع الخال كتاباً له (بالعامية اللبنانية) في غاليري في بيروت، ويتسلّم نسخةً موقّعة. وتكتب صاحبة المذكّرات "لا أعرف ماذا حلّ بي، لأني لم أتوقّع أن أراه وجها لوجه، استقبلتُه وقلبي يرتجف". وبعد أيام، يزور الشاعرَ في منزله. وهنا تكتب "يطلّ كالعادة بثيابه البسيطة التي هي أقرب إلى ملابس طالب جامعي، ولا من مرافقين يحمونه من عدوٍّ كامن". وتتزيّد "كان بشير محبّاً للناس، وقريبا من كل فئات المجتمع، هناك إجماعٌ عليه من النساء والرجال والأطفال". ... وتسترسل عن إصابتها (عولجت في المستشفى أياماً)، وهي متوجّهة إلى المطبعة، لتسليم كتابٍ مصوّرٍ أعدّته عن بشير الجميّل، في حادث اغتيال استهدف الأخير، وقتل فيه تسعة أشخاص، قبيل يومٍ ظلّل الفرح فيه منزل يوسف الخال، لمّا رأوا بشير على شاشة التلفزيون يرشّح نفسه رئيساً، فتقرّر أن يحتفلوا، الزوج وزوجتُه وصديقٌ لهما، بزجاجة شمبانيا في يوم التنصيب، غير أن هذا اليوم لم يأت، بل جاء يوم الاغتيال المشهود، "التفتُّ إلى يوسف (وبهيج)، فرأيتُهما ينشُجان بالبكاء كأي طفليْن يتيميْن"، ثم حطّمت زجاجة الشمبانيا التي كان محتفظاً بها.
حدث ذلك في مثل هذا اليوم في منزل يوسف الخال، في "ليلة تتويج بشير شهيداً، هو ورفاقُه قبل أن يكون رئيسا للبلاد التي أكلها الحزنُ والخوف والفقد، والفوضى العقلية الطائفية والفساد والاغتيالاتُ وسواد الثياب، وقتامة النظرة إلى الوجود بأكمله، وإلى الموت البطيء الجماعي في الروح والجسد" ... يا للهوْل، هل كان بشير الجميّل الوعدَ بإسعاف لبنان من هذا كله؟ تُرى، ماذا كنّا سنكتُب اليوم لو لم يَقتُل القاتلُ بشير الجميّل، وصار هذا رئيساً للبنان؟