برلسكوني ... "الشعبوي النموذجي"

14 يونيو 2023

صورة برلسكوني وجملة وداعية له خارج مقر إقامته في آركور شمال إيطاليا (13/6/2023/فرانس برس)

+ الخط -

من يقرأ العبارات التي اختارها رموز من عالم كرة القدم لوداع سيلفيو برلسكوني يتأكّد أننا لا نعيش في عالم واحد مع بشر كثيرين. المدرّب الإيطالي كارلو أنشيلوتي، كتب في نعيه: أدين بشكل غير محدود للرئيس (برلسكوني)، الرجل الذكي، الوفي، المخلص. يدُه اليمنى في نادي "إي سي ميلانو" أدريانو غالياني ودّع "صديقاً كان أستاذاً في كل شيء". على هذا المنوال، يمكن العثور على مئات المواقف التي تحمل برلسكوني من عالم الرياضة التي أوصلته إلى السياسة، فتجعل من رجل يتباهى بكمّ الكراهية التي يحملها لفئاتٍ كثيرة من البشر، "أستاذاً في كل شيء"، و"ذكياً".

تطرح وفاة سيلفيو برلسكوني عن 86 عاماً في مسقط رأسه ميلانو سؤالاً أخلاقياً لطالما نال ما ناله من تفكير. هل الذكاء قيمة بحد ذاتها؟ كذلك الأستذة أو النجاح المهني؟ في عالم برلسكوني وأشباهه، الجواب سهل. أنا حكمتُ بلداً شديد التعقيد كإيطاليا تسع سنوات (غير متواصلة، بين 1994 و2011)، وهو ما لم يفعله أحد منذ بينيتو موسوليني، إذاً أنا "يسوع المسيحي السياسي" مثلما وصف نفسه مرّةً، وبالتالي أنا "أفضل زعيم سياسي في أوروبا والعالم" كما قال بكل تواضع عام 2006. عند الشعبويين المؤسِّسين، وبرلسكوني عرّابهم في العصر الحديث، القاعدة ثابتة: اعرف ماذا يخشى جمهورك. من يهابون ويحترمون. أخرِج عالِم النفس الذي في داخلك وتوقّع ردود فعلهم، وثقْ بأنه كلما كان تعليقك نافراً فإن ذلك سيُصرف لحسابك في صندوق الاقتراع، وكلما كان لسانك سليطاً، وكلما كذبتَ، سيرى ناخبوك أنك الرجل الذي يستطيع قول أي شيء، ما يفكّرون به ولا يمكنهم قوله لأن لا حصانة لهم. كلما كان سلوكك اليومي غير قانوني ووقحا بحجّة الصراحة، فإنهم سيقفون إلى جانبك بوصفك التعبير الأمثل عن وعيهم المكبوت. الرجل القوي الذي يحبّه الإيطاليون بحسب الكاتب الإيطالي "المتخصّص" ببرلسكوني، بيبي سيفيرنييني، جسّده برلسكوني، أو "دون سيلفيو" كما يحب أن ينادوه: كان "الشعبوي النموذجي".

في عالم برلسكوني، الشخصي هو السياسة الوحيدة. كل جرائمه وموبقاته وثقل دمه ونكاته التافهة أو العنصرية وتصرّفاته ومظهره وثروته هي رصيده الشعبي، فالدعاية دوماً ما تكون جيدة بالنسبة لهؤلاء. أن تبقى قبلة الإعلام يعني أن تظلّ بحركة دائمة خروجاً عن النص وعن القوانين التي يكرهها الرجل. في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أراد تشجيع لاعبي فريقه "مونزا" لكرة القدم في الدوري الإيطالي، فوعدهم بأن يأتي لهم بحافلة مليئة ببائعات الجنس إلى غرف تبديل الملابس في حال فازوا بالمباراة. عام 2009 علّق على الزلزال الذي قتل 300 شخص وشرّد عشرات الآلاف عام 2009 في بلدة أكيلا الإيطالية، طالباً من الضحايا المشرّدين أن يعتبروا أنفسهم وكأنهم يخيّمون في عطلة نهاية الأسبوع. زرْع الشعر وصبْغه، وإجراء كل أصناف عمليات التجميل لوجهه وجسده، حتى قبل أن يحطّم له مواطن إيطالي أسنانه وأنفه نهاية عام 2009 بلكمةٍ في الشارع في ميلانو، تُكمل سرد شيءٍ من شخصية معتوه غير قادر على ضبط هوسه بالفتيات المراهقات. حفلات الـ bunga-bunga التي تخلّلتها ممارسة برلسكوني الجنس مع الراقصة في الملهى، كريمة المحروق، وهي في السابعة عشرة من عمرها، أطاحت الرجل من السياسة سنوات من دون أن تسجنه، لأنه كان في حينها فوق السبعين، ومن هو بهذا العمر لا يدخل السجن في إيطاليا. في ذلك البلد، يأبى التاريخ أن يطوي الصفحة. طُرد الرجل المدان بقضايا فساد بالجملة من البرلمان عام 2013 ثم عاد في 2018 كعرّاب تحالف اليمين واليمين المتطرّف، وأحد صنّاع الائتلاف الحاكم اليوم مع جورجيا ميلوني وماتيو سالفيني.

قلة هم الأشخاص الذين تقمّصوا البشاعة في شخصهم مثلما فعل برلسكوني. كاره للمسلمين ولأصحاب البشرة السوداء (سخريته من لون بشرة باراك أوباما لدى انتخابه في 2008) ولليهود (نكتته المشهورة عن اليهودي الذي ظلّ يتقاضى بدل إيجار من يهودي آخر آواه عنده مختبئاً من النازيين من دون أن يخبره أن الحرب العالمية انتهت). معجبٌ طبعاً بموسوليني الذي "لم يقتل أحداً"، وكل ما فعله أنه "أرسل بعض الأشخاص في إجازة". أعزّ أصدقائه فلاديمير بوتين، ظلّ يتباهى بصدقاتهما حتى أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأحرج حليفته جورجيا ميلوني بدفاعه عن غزو أوكرانيا وتحميل مسؤولية الحرب إلى فولوديمير زيلينسكي.

كرة القدم صنعت السياسي الذي صاره، كذلك الإعلام، كحال أحد تلامذته عن بُعد دونالد ترامب. كلاهما أتيا ليخلصا بلدهما من اليسار، يقولان. كلاهما أتيا على أجنحة كره المؤسّسات الديمقراطية واحتقارها من دون أن يكون أيٌّ منهما منتخباً. تنقّل ترامب بين الحزبين لعله يجد من يتبنى ترشيحه، بينما أسّس برلسكوني حزباً وكأنه يضيف مبنىً إلى إمبراطوريته العقارية. كلاهما محترف نواح ضد "القضاة الشيوعيين"، وضد المؤسّسات، ضد النخبة. كلاهما فاسد من الوريد إلى الوريد. بعد ذلك كله، يطلبون منك ذكر محاسن الموتى.

إن كان باراك أوباما، بعدم قصفه سورية ــ الأسد عام 2013، قد سمح لاحقاً لفلاديمير بوتين بشنّ حرب أوكرانيا وقبلها باحتلال القرم، فإنّ وصول برلسكوني، من على متن سفينة الترفيه حيث كان يغنّي في شبابه من أجل التمكن من دفع أقساط دراسته القانون في الجامعة، إلى السلطة، هو ما خلق وحوشاً لاحقاً بوزن دونالد ترامب.