بايدن وبوتين والأزمة الاقتصادية العالمية
إذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا أثبت أن الولايات المتحدة ما زالت قادرة، بدعم من حلفائها، على فرض تكاليف باهظة، دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، على أي دولة، مهما بلغت قوتها، إن تحدّت قواعد النظام الدولي الذي رسّخته واشنطن في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإنه أثبت، أيضاً، أن الولايات المتحدة لن تكون في معزلٍ، دائماً، عن تداعيات العقوبات التي تفرضها. وإذا أردت الدليل هنا، يكفي أن تنظر إلى الهبوط الحادّ الذي سجلته البورصة الأميركية، يوم الأربعاء الماضي، مدفوعاً بنسب التضخم غير المسبوقة خلال أربعين عاماً. وواضح أن إدارة الرئيس، جو بايدن، لا تملك حلولاً وإجاباتٍ عن هذا التحدّي الذي يهدد حياة الملايين من الأميركيين، بل إنها تُضاعِفُ من حجم الكارثة أكثر فأكثر.
في حقبة العولمة والاقتصادات المتشابكة والاعتماد المتبادل، يغدو من المستحيل على أي دولة، مهما كان حجم اقتصادها، أن تستغني عن الآخرين، وهو ما رأيناه واقعاً، وما زلنا، في خضم جائحة كورونا، إذ اضطربت شبكات التوريد العالمي المعتمدة على الصين بشكل كبير، وتضاعفت معدلات الانكماش في بعض الدول، والتضخم في دول أخرى لجأت إلى إغراق أسواقها بسيولات نقدية ضخمة من دون أرصدة. وما كاد العالم يبدأ بالتسلق البطيء من قبو الجائحة، حتى كانت روسيا تحشد قواتها على حدود أوكرانيا، ثمَّ تجتاحها. وردّ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، بسلسلة متوالية من العقوبات الاقتصادية والمصرفية الكاسحة على موسكو، شملت قطاع الطاقة أيضاً، فكانت أن ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، بل ومسّت تلك الحرب والعقوبات التي تبعتها بالأمن الغذائي العالمي، إذ إن روسيا وأوكرانيا منتجان رئيسيان للقمح والشعير والذرة والزيوت النباتية.
إدارة بايدن مصرّة على استنزاف روسيا وإضعافها إلى حد إخراجها من مصافّ الدول العظمى، والكارثة، أنها تجد تعاوناً من رئيس أوكرانيا الأرعن
ليست الولايات المتحدة استثناء في سياق الرزوح تحت وطأة المعاناة الاقتصادية العالمية، لكن الفارق هنا أنها لا تقل مسؤوليةً عن روسيا في التسبّب في المعاناة التي تئن الإنسانية تحتها اليوم. صحيحٌ أن فلاديمير بوتين هو من اتخذ قرار غزو أوكرانيا، ولكن واشنطن هي من حرّضت كييف على استفزاز موسكو عبر مساعي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). والآن، وبعد أن بدا واضحاً أن روسيا غرقت في مستنقع أوكرانيا، جرّاء العقوبات الغربية وشحنات التسليح الضخمة للجيش الأوكراني بعشرات المليارات من الدولارات، عادت موسكو وجدّدت مطلبها بأن يقبل "الناتو" حياد أوكرانيا. شرط معقول، خصوصاً وأن أوكرانيا، حتى وإن نجحت في استنزاف الروس، إلا أنها تدمر يومياً ويشرّد شعبها، ومن ثمَّ لا مصلحة لأحد في استمرار هذه الحرب العبثية. المشكلة أن إدارة بايدن مصرّة على استنزاف روسيا وإضعافها إلى حد إخراجها من مصافّ الدول العظمى، والكارثة، أنها تجد تعاوناً من رئيس أوكرانيا الأرعن، فولوديمير زيلينسكي، الذي يتحدّث، مزهوّاً، كقائد دولة عظمى، في حين يقضم شرق بلاده، وتدمر أجزاء أخرى فيها، ويعاني الملايين من شعبه من الشتات واللجوء.
تفيد المعطيات في الولايات المتحدة بأن معدل التضخم فيها وصل اليوم إلى 8.3% وهو الأعلى منذ عام 1981. وقد قفز متوسط أسعار المواد الغذائية بالجملة بنسبة 18% عن العام السابق. أما سعر البنزين، فقد ارتفع متوسط سعر الجالون الواحد بمعدل دولار وثلاثة وخمسين سنتاً عما كان عليه قبل عام واحد. بل لك أن تتخيّل أن الدولة الأقوى والأغنى على وجه البسيطة لا تجد حليب أطفال لإرضاعهم، وهو ما اضطرّ معه بايدن، يوم الأربعاء الماضي، إلى الاستعانة بـ"قانون الإنتاج الدفاعي" لإنشاء جسر جوي لاستيراد حليب الأطفال وتوزيعه. ولأنه لم يبق على الانتخابات النصفية التي يخشى الديمقراطيون خسارتها، إلا أقل من ستة أشهر، لم يجد بايدن إلا أن يلقي بالمسؤولية على كاهليْ بوتين بالتسبب في ارتفاع التضخم في أميركا، قائلاً: "ما لا يعرفه الناس هو أن 70% من الزيادة في التضخم كانت نتيجة لزيادة بوتين للأسعار عبر تأثيره على أسعار النفط".
هل بوتين وحده المسؤول عن نسب التضخم العالية، أم أن المركب الصناعي العسكري الأميركي، وحلفاءه، يتقاسمون المسؤولية معه؟
لن نستغرق هنا في الحديث عن حزم اقتصادية إنعاشية أنفذتها إدارتي دونالد ترامب وبايدن، قيمتها مئات المليارات من الدولارات من دون وجود رصيدٍ يغطيها، ولنحصر الحديث في أوكرانيا. تتباهى إدارة بايدن أنها قدّمت دعماً عسكرياً لأوكرانيا، منذ الاجتياح الروسي في فبراير/ شباط الماضي، تجاوز ثلاثة مليارات دولار. وفي شهر مارس/ آذار الماضي، وقع بايدن حزمة جديدة من المساعدات بقيمة 13.6 مليار دولار. وفي شهر مايو/ أيار الماضي، طلبت إدارته 33 مليار دولار أخرى، فما كان من الكونغرس إلا أن رفعها إلى 40 مليار دولار، وبموافقة من أغلب أعضاء الحزبين، الديمقراطي والجمهوري. هؤلاء هم أنفسهم الذين لا يتفقون أبداً على أي مساعدات اقتصادية لأبناء شعبهم! بعد ذلك كله، هل بوتين وحده المسؤول عن نسب التضخم العالية، أم أن المركب الصناعي العسكري الأميركي، وحلفاءه، يتقاسمون المسؤولية معه؟
الحقيقة أن الشعوب المقهورة، بما فيها الشعب الأميركي، تدفع أثمان مكر تجار الحروب وجشعهم وإجرامهم، ففي حين لا تكاد محرّكات مصانع الأسلحة الأميركية والأوروبية تتوقف، لا تكاد شعوب القارّتين تقدر على تحمل أسعار الغداء والطاقة. أما بقية شعوب العالم الأفقر، فكان الله في عونها، فقد اجتمعت عليها نوائب الدهر قاطبة.