بايدن... نتنياهو: "سَمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ"
قديماً قالت العرب "سَمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ" في كناية عن الإحسان لمن لا أخلاق عنده ولا امتنان لديه. واليوم يبدو أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، واحدٌ من أبرز تجليات هذا المثل وضحاياه البُغَضاء. في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد 11 يوماً من عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس على مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في منطقة غلاف قطاع غزّة، وصل بايدن إلى تل أبيب في زيارة غير مسبوقة لرئيس أميركي لإسرائيل في وقت حرب. كانت الزيارة رسالة دعم مطلق وغير معهودة حتى في سيرورة الانحياز الأميركي للدولة العبرية. لم يقف الأمر عند حدود تلك الزيارة والاجتماع مع مجلس الحرب، فقد سبقتها قرارات من بايدن بتدشين جسريْن، جويٍّ وبحريٍّ، لإيصال السلاح والذخائر إلى إسرائيل، كما أمر بإرسال حاملتي طائرات مع مجموعتيهما المقاتلتين، ومزيد من القوات والأصول العسكرية الأميركية بذريعة "ردع" كل من قد تسول له نفسه مهاجمة إسرائيل وهي مشغولة في سحق قطاع غزّة وإبادته. قصة الدعم الأميركي غير المحدود منذ أكثر من أربعة أشهر للجرائم الإسرائيلية في غزّة معروفة. ومنذ البداية، عللت إدارة بايدن احتضانه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي كانت علاقته متوترة معه أشهراً طويلة، إنما كانت من باب بناء "رأس مالٍ سياسيٍ" يمكن لبايدن أن يصرفه عند الحاجة إليه.. أو هكذا كان "العشم"، قبل أن يعضّ نتنياهو يدَّ بايدن الممدودة إليه، وهذا ديدن إسرائيلي في العلاقة مع أميركا.
يستجدي بايدن، منذ أسابيع، "هدناً إنسانية مؤقتة" من نتنياهو، لإبرام صفقة تبادل أسرى، والسماح بإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة المنكوب، وتخفيض عدد الضحايا في جانب المدنيين الفلسطينيين الذين تجاوزوا 30 ألف شهيد وأكثر من 70 ألف جريح. كان بايدن، وما زال يفعل ذلك في وقت تستمر فيه إدارته في إسباغ كل أشكال الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي على إسرائيل للاستمرار في جرائمها في قطاع غزّة. ومع ذلك، مضى نتنياهو غير آبه في ازدراء بايدن وإهانته. ليس فقط أن نتنياهو لم، ولا يبالي بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، بل داس مصالح بايدن الانتخابية في سبيل نجاته هو نفسه سياسياً من تداعيات هجمات 7 أكتوبر التي جرت تحت سمعيْه وناظريْه. وإذا كان في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في ولاية متشيغان، الثلاثاء الماضي، من عبرة لبايدن، فهي أن بناء "رأس مالٍ سياسيٍ" مع شخص مثل نتنياهو وإيداعه رصيداً في بنك حكومة إسرائيلية يعني تلاشيه وضياعه.
صحيح أن بايدن فاز بحوالى 81% من أصوات الديمقراطيين في انتخاباتٍ بلا منافسين حقيقيين، لكن 13.2%، أي أكثر من 100 ألف شخص، من الناخبين صوتوا بـ"غير ملتزم" احتجاجاً على موقفه المتواطئ والشريك في جريمة الإبادة في قطاع غزة. هذا قد يشكل عقبة حقيقية أمام بايدن في العودة إلى البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني القادم إن لم ينجح، من جديد، في كسب أصوات العرب والمسلمين والأقليات والشباب الأميركيين الغاضبين عليه. وحسب كثير من استطلاعات الرأي، فإن طريق بايدن أو المرشّح الجمهوري المفترض، دونالد ترامب، للرئاسة قد تمرُّ عبر ولاية ميشيغن المتأرجحة. وللتدليل على أهمية الولاية هنا، يكفي التذكير أن المرشّحة الديمقراطية للرئاسة عام 2016، هيلاري كلينتون، خسرتها لصالح ترامب بحوالى 11 ألف صوت فقط. ومن ثمَّ لبايدن وحملته الانتخابية أن يقلقوا كل القلق من هذا الغضب المحتقن ضدّه جراء سياساته الداعمة إسرائيل، خصوصاً أنه رئيس لا يتمتّع بجاذبية أصلاً، وكثيرون من الديمقراطيين والمستقلين مستاؤون من سياسات أخرى له ومن لياقته الذهنية جرّاء تقدّمه في السنّ.
عقبة حقيقية أمام بايدن في العودة إلى البيت الأبيض إن لم ينجح، من جديد، في كسب أصوات العرب والمسلمين والأقليات والشباب الأميركيين الغاضبين عليه
عودة إلى المثل العربي "سَمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ". قبل يوم من الانتخابات التمهيدية في ميشيغن ظهَر بايدن في أحد البرامج الحوارية الكوميدية الأميركية، حاول فيه التذلّل لأصوات الناقمين عليه بسبب جريمة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، فهاجم الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير. كما حاول تحذير حكومة نتنياهو التي يصفها بـ"المتطرّفة" من أن إسرائيل، التي زعم أنها "حظيت بأوسع دعم من الأغلبية المطلقة لدول العالم" بعد 7 أكتوبر "سوف تفقد هذا الدعم" إذا استمرّت في نهجها في قطاع غزّة. لن نتحدث هنا عن أن إسرائيل ما كان، وليس في وسعها الاستمرار في "نهجها" الإجرامي لولا دعم إدارته المطلق لها، ونقتصر على ردّ نتنياهو الذي وصل حدَّ الوقاحة مع من انتشله من بين ركام فشله بعد "طوفان الأقصى"، والتنكّب لوليِّ نعمة كيانه. "يردّ على بايدن: منذ بداية الحرب أقود معركة دبلوماسية تهدف إلى صدّ الضغوط التي تسعى إلى وقف الحرب (على غزّة) قبل الأوان، ومن الجهة الأخرى، إلى حشد الدعم لإسرائيل". كان هذا هو البيان الذي أصدره مكتب نتنياهو الاثنين الماضي. وأضاف، في نبرة لا تخلو من الاستقواء على بايدن: "نحقّق نجاحات ملموسة في هذا الصدد، لأنه نشر اليوم في الولايات المتحدة استطلاع رأي من هوارد هاريس يظهر أن 82% من الجمهور الأميركي يؤيدون إسرائيل، أي أربعة من أصل خمسة مواطنين أميركيين يدعمون إسرائيل وليس حركة حماس". مشدّداً على أن "هذا يعزّز إصرارنا على مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر التام فيها".
باختصار، تدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً جرّاء عقود متراكمة من العلاقة المختلّة مع إسرائيل، والتي تتصرّف الأخيرة بموجبها وكأنَّ أميركا مدينة لها لا العكس. أما بايدن، فربما يحتاج إلى قول المتنبي، الذي يُجَلِّي جدلية علاقته بنتنياهو: مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه/ ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام.