باية الجزائرية: المقاوَمة بالألوان

10 مارس 2023

(باية محي الدين)

+ الخط -

صبيّةٌ بريئةٌ لا يختلف مظهرها عن أيّ فتاةٍ في عمرها، قادمةٌ من أسرةٍ فقيرةٍ في منتصفِ القرن العشرين. تقف أمام لوحاتها، في مكانٍ من شبه المستحيل، أن تقف فيه فتاةٌ عربية أو قبايلية، وبهذا العمر. في معرضها الفنّي الذي نظّمهُ رائد المدرسة السّريالية أندريه بريتون، في غاليري "ميغث" للفن السّريالي في باريس، لم يتجاوز حينها عمر بايَة محي الدين الستة عشر عاما، وكانت بالفعل قد أصبحت حديث المجتمع الثّقافي في باريس. ما دفع بيكاسو إلى دعوتها إلى العمل معه، بين عامي 1948 و1952. واستوحى من عوالمها سلسلة لوحاته "نساء الجزائر"، التي بلغت 15 لوحة، إضافة إلى تأثّره السّابق بلوحة أوجين ديلاكروا "نساء جزائريات".

تضجُّ لوحاتُ باية بالألوان، كلّ الألوان، والأحلام والفانتازيا، والانسجام بين نسائها والطبيعة حولهن. بل إنّهن يتحوّلن أحياناً إلى جزءٍ من شجرة أو حديقة، أو ربما جنّة، تسكنها الحوريات اللّواتي ينعمن بفواكه الجِنان الموعودة، برفقة الطّيور من أمثال الهدهد والطاووس. وذلك كله ترافقه آلات موسيقية، لتتجاوز اللّوحات بهجة العين إلى بهجة الأذن. نساؤُها ذوات شُعور سوداء طويلة، تشبه الصّورة التي رسمها التّراث الإسلامي للحور العين، والأميرات من ألف ليلة وليلة. بعيونِ واسعة، وفساتين احتفاليةٍ فرنسيةٍ، لتجمع بين التوجّه الفني الفرنكوفوني وخصائص الفن الشّعبي المحلي.

نساءٌ جزائريات لكنّهن يرتدين فساتين السّهرة الفرنسية، ويعشن كملكات. الفضلُ في قدرةِ باية، واسمها الحقيقي فاطمة حدّاد، على تفجير قدراتها ليس مفاجئاً، إذ يعود إلى سيّدةٍ فرنسيةٍ تُدعى مارغريت بنهورا، كانت جدّة باية تعمل عندها. وهي مثقفةٌ ثرّية، شجّعتها وزوّدتها بالمواد التي تحتاجها. وعرّفتها على نقاد وفنانين فرنسيين، وهي لا تتجاوز الثالثة عشر من عمرها، وهو السنّ الذي بدأت فيه باية الرسم، فيما كانت تكتفي قبلها بالنّحت مستعملةً الطين. عوالمُ باية الفنّية تسكنها النّساء فقط، كما في حياتها التي خلت من الرّجال، في تلك الفترة، فجدّتها من ربّاها، والسيدة الفرنسية التي كانت تزورها معها هي، من ساعدها. ولعل باقي الرّجال كانوا سلبيين، فاختارت أن تقدّم بياناً نسوياً فطرياً، "الحياة بلا رجال ممكنة"، فهناك متسعٌ للحياة في الطبيعة بأشجارها وكائناتها.

عادت باية إلى التراث في تخيّلها المرأة، لكنها أَسقطت من مخيّلتها الفارس النّبيل، أو الأمير الساحر، أو القائد الهمام، وكلّها نماذج يُروّجها التراث الذي شكّل جزءاً أساسياً من خلفية باية الثقافية. باية الحالمة واليتيمة منذ سنّ الخامسة، وضعت على اللّوحات، بلا أيّ توجيه، ما تفكّر فيه، من دون أن تعرف حدوداً أو قيوداً فنية. ولعل هذا سحر الفنّ الفطري الذي وجد فيه المهتمون بالفن ملاذاً من قيود المدارس الفنية. وهنا تتقاطعُ تجربة باية مع الفنّانة المغربية الشْعيبيَّة طلال. لكن هناك فرقا في التجربة، فالشعيبيَّة طلال امرأة جبّارة كاريزماتية، عُرفت على كبر، واستمتعت بتجربتها إلى آخر العمر.

لكن باية الصّبية الخجولة اشتهرت على صغر، ووصلت إلى ما لم يحلم به فنانٌ من المنطقة العربية. لكن اختيارات الحياة أو إكراهاتها أطفأت تجربتها الفنّية مبكّراً، فلم تنعُم بحياة الشهرة التي كانت تنتظرها، إلّا بعد وقت طويل. إذ عادت باية إلى الجزائر، وتزوّجت من موسيقار يكبرها بـثلاثين سنة، لتكون زوجته الثانية. وانقطعت عن الرّسم إلى عام 1963، حين عادت إلى ألوانها، وعُرضت أعمالها في مختلف أنحاء العالم، وما زالت تُعرض، فالمكتبة الوطنية في قطر خصّصت رِواقاً للوحاتها، وكانت مفاجأة جميلة قابلتني، وأنا أتسكّع كما أحبّ، بين أقسام ورفوف هذه المكتبة المدهشة بمحتوياتها وهندستها.

تنافسُ باية محي الدين الفنّانة رمزية جميلة بوحيرد التي قاومت بالسّلاح، بينما قاومت هي بالألوان. حتى إنّها رفضت الإقامة في فرنسا، في عزّ نجاحها وهي صبية، وفي كهولتها أيام العشرية السّوداء، فقدّمت نساءَ بلادها في صورة قوّية، رغم اليتم المبكّر والفقر. إذ لم يمنع ذلك كلّه باية من أن تخرُج إلى العالم كوردةٍ برّية فائقة الموهبة. ولعلّ النّساء وهن يقفن أمام الألوان المُبهجة للوحات باية يجدن فيها محرّضاً على مقاومة تحدّيات الحياة، طالما استطاعت هي التّحليق بمخيّلتها الثّرية، في واقع صعب، فإنّهن الآن أقدر على ذلك.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج