كتّاب اشتعلت النار في حياتهم

27 ديسمبر 2024

(معتز العمري)

+ الخط -

تقول الآية القرآنية "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيٍّ" في جملة لا تخطر على بال اللّغة، وما من شاعر قد يمتلك مخيّلةً لها هذه الدّقة. لكنّ الشّعراء والرّوائيين لم يتوقّفوا عن المحاولة، ولو لغسلِ أثر النار التي تُشعِل حياتهم. وللشّاعر اللبناني وديع سعادة قصّة بالغة الألم بَصَمَتْ طفولته، حين عاد إلى البيت ليجد أباه محترقاً. فغلّفت هذه المأساة حياته كاملةً، وصنعت منه شاعراً نادراً في تجسيد الألم الإنساني الذي يخترق العظام، ولا يتوقّف عن الاستنجاد بالماء، بينما تشتعل النار أمام عينيه.
"كنتُ ريَّاناً مليئاً بالغيوم/ فانحنيتُ على نبعي/ ودلقتُ الدموع". وبدل النار التي تحوّل الغائب فحماً ورماداً، اختار سعادة الغياب الذي يتحوّل فيه الغائب ماءً، "هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصاً تحدّثت إليه طويلاً حتى غاب. ولا أحاول الآن النّظرَ إلى ماء، بل استعادةَ شخص ذائب".
قبل وديع سعادة، حاولت كاتبة برازيلية معروفة، هي كلاريس ليسبتور، تعويض الماء لذاكرة النّار. فكتبت كتاباً هائلاً بعنوان "ماءٌ حيٌّ"، هي التي تعرّضت لحروق شديدة عانت من آثارها بقيّة حياتها، بعد أن نامت بسيجارة مشتعلة، أحرقت صاحبتها. يشير العنوان إلى قنديل البحر أيضاً، فالجملة البرتغالية (Água Viva) لها المعنيان: "ماءٌ حيٌّ" و"قنديلة البحر"، كما تؤكّد مترجمة الرواية صفاء النجار. ورغم ذلك، فكلاريس تقول فيها "أنا أحمي بالنّار لعبة حياتي".
كثير من الهذيان الشعري يميّز كتابةً غير منطقية في "ماء حيّ"، لكنّها ساحرة. "لماذا تبدو الأشياء لحظة فقط قبل حدوثها وكأنّها قد حدثت؟ إنّها مسألة تزامن الزمن. ولذا أوجّه لك الأسئلة، وهناك الأكثر منها، لأنّني أنا سؤال". وهي هناك تخاطب رجلاً ما تكتب إليه بطلة الكتاب رسائلها، وهي كلّ الرواية التي لا تضم ردود المرسَل إليه أو أيّ معلومة عنه. لكن الفنّانة الرّاوية تذوب في الرّسائل والأسئلة، كما يسترخي قنديل البحر في الماء.
كانت كلاريس (من مواليد 1920) صحافية تقول الروايات عن حياتها إنها عاشت حياةً رتيبةً بعد زواجها وتوقّفها عن العمل. لكنها كانت زوجةَ سفير عاشت في بلاد عديدة. ما يعني أن باب حياة حافلة فُتِح أمامها بفضل السفر. مع ذلك، عاشت في قوقعتها التي حملتها حيثما ذهبت. فهي في رسائل لها تكتب عن المغرب والجزائر (حيث عمل زوجها) جملتين فقط، تدلّان على أنها لم تعرف البلدَين، ولم تخرج من المباني المغلقة.
كان يمكن أن تتعرّض لإصابة بالغة أثناء مغامرة في إحدى البلاد التي سافرت إليها خلال الحرب العالمية الثانية. لكنها احترقت في غرفة مغلقة وآمنة من كلّ خطر. لندرك، إن لم نفعل قبلاً، أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّدنا هو الذي تُضمره أمكنتنا المفضّلة.
مع أن مهنة الصحافة في ذلك الوقت كانت مغامرة أكثر من أيّ وقت، ولكنّها كانت تشعر أنه كان عليها أن تشغل منصباً بدل أن تستمتع بحياة المسافرة المغامرة المتحرّرة من عبء الوظيفة. مع ذلك، كانت لها شجاعة "الذهاب إلى النهاية" رغم الاكتئاب الشديد الذي عانت منه. ولامت في حوار لها الكاتبة البريطانية فيرجينا وولف التي انتحرت وهربت من مواجهة مرض الاكتئاب، بدل أن تكمل مغامرة الحياة إلى النهاية، ففيرجينيا وولف استسلمت، بينما ترى هي أن "الواجب الصّعب هو الذهاب إلى النهاية". حتى لو كانت نهايةً عبثيةً في نظرها فـ"من سيجمع أثمار حياتي؟". نحن القرّاء فعلنا، واستمتعنا بثمارها التي جعلتها إحدى أكثر الكاتبات أهميةً. وهي عبّرت عن الموت حقيقةً عاريةً بجملة "فضاحة الموت"، إذ لم تقل "فضيحة، بل "فضاحة" على مقياس الفداحة.
وإذا استعمل وديع سعادة لغة سلسلة كنهر، فكلاريس كانت تتخبّط في اللغة كسمكة تجرّب الطيران، رغم أن هذا الرقص في اللّغة صنع وجبةً ساحرةً من النثر، إلّا أن غياب الاستقرار النّحوي يعيق إدراك المعنى من القراءة الأولى. لكنّ العودة إلى الجمل السابقة متعة لا مثيل لها، تجعل القراءة رقصاً على حبال الحياة. كما أنّ الماء اختيار لها رغم أنف النّار، التي لا تنفكّ قناديلها تُضيء في الماء وفي الغرف.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج