انقلابات في أفريقيا وطرد سفير فرنسي .. ماذا بعد؟

07 فبراير 2022

تحية في بلدة هييري الفرنسية لنعش ضابط فرنسي قتل في مالي (27/1/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تسارعت الأحداث، أخيراً، بين مالي وفرنسا، إذ سارعت سلطات باماكو إلى الرّد على تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، لودريان، التي قال فيها إنّ مالي تتصرّف خارج الأعراف التي سطّرتها فرنسا، ضمنياً، لدول نفوذها في القارّة على خلفية دعوة الماليين شركة روسية أمنية خاصة (فاغنر) لمساعدتها على ضبط الأمن في البلاد. عند الرجوع إلى تلك التصريحات، نجدها متوافقة مع ما اعتادت فرنسا توجيهه من انتقادات لدول القارة الأفريقية، وخصوصاً الفرانكفونية، الواقعة تحت نفوذ تأثيرها، الممتد منذ الاستعمار، بل تلك التصريحات هي التعبير الحقيقي عن التعامل الفرنسي مع تلك الدول في إطار ما باتت تعرف بـ "سياسة فرنسا الأفريقية" المميّزة بالتّدخُّل السّافر في شؤون تلك الدول، إلى درجة أنّ الشخصية الثانية في هرم السلطة، لجهة النفوذ والتأثير، في أيّ دولة أفريقية فرانكفونية هي السفير الفرنسي، وكلُّ القرارات تُقَرّ بالاتفاق، بل بتصريح من باريس.
لا تزعم المقالة أنّ الروس قدموا إلى مالي بنيّات أخلاقية أو أنّهم أفضل حالاً من الفرنسيين، لأنّ الجميع، من متدخّلين في القارة الأفريقية من قوى دولية وإقليمية، يعمل وفق تقاليد العلاقات الدولية بحثاً عن مصالح للتعظيم وتهديدات للاحتواء، لكنّ الهدف إبراز أدوار فرنسا السيّئة في القارّة وبقائها، في إدراك سياسييها، إعلامييها وأصحاب القرار فيها، تدّعي أنّها الأعرف بمصالح القارّة وأنّها الأولى بالنَّيل، بمعنى الاستنزاف، من موارد أفريقيا وخيراتها. ولذا، صرّح وزير خارجيتها، لودريان، بأنّ "فاغنر" تعمل على نهب خيرات مالي ضمن جُمل حاول تضمينها سعي فرنسا للدفاع عن الديمقراطية، وهي الجمل ذاتها التي سبّبت اتخاذ سلطات مالي قرارها بطرد السفير الفرنسي من باماكو.
دأبت فرنسا، قرنين، في أثناء الاستعمار وبعده، على اعتبار أنّ جزءاً من القارة الأفريقية هو حديقتها الخلفية، كما تعتبر مخرجات مؤتمر برلين، لعام 1883، أساساً قانونياً لممارستها في دول حُدِّد أنّها واقعة في دائرة نفوذها، حين أسّست لقواعد سلوكات استعمارية دائمة اعتبرت، من خلالها، موارد القارّة، كلّها اقتصادية وبشرية، ملكاً لها، تتصرّف فيه كما تشاء، ولا حدود لذلك التصرّف. وقد امتدّ الأمر إلى ما بعد موجة الاستقلال، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، بربطها تلك الدول الأفريقية بجملة من الاتفاقات، تنال بموجبها الاستقلال، لكن بصفة صورية.

اعتادت فرنسا عمليات التدخُّل العسكري في القارّة، وكأنّها في نزهة من خلال، إما جيشها أو مرتزقين تابعين لها

يعتبر الصوري من تلك السيادة كلّ تصرّف اقتصادي، أمني أو سياسي، للدول الفرانكفونية ليبُرز ذلك في أبهى صوره، من خلال قادة يُعيَّنون، حقاً وليس مجازاً، من قصر الإليزيه، سواء بعد انقلابات عسكرية أو انتخابات تزكية، لا شفافية فيها، بل اعتادت فرنسا عمليات التدخُّل العسكري في القارّة، وكأنّها في نزهة من خلال، إما جيشها (كما جرى في مالي من خلال عمليتي سرفال ثم برخان) أو مرتزقين تابعين لها يقودون عمليات تنصيب لرؤساء وقادة من دون أدنى اعتبار للسيادة أو الاستقلال لتلك الدول الأفريقية.
اقتصادياً، يعرف الجميع أنّ الشّركات الفرنسية ورجال أعمالها هم المسيطرون على موارد القارّة ويعملون على تحويل مداخليها إلى العاصمة باريس. ويكفي الاطّلاع على فضائح الرشى والفساد في القارّة لمعرفة حجم الظُّلم الواقع على اقتصاديات الأفارقة والتعرّف، من قرب، إلى السبب الحقيقي لتخلفهم. وقد يكون من المناسب، بشأن مالي، الحديث عن مناجم الذهب أو المعادن الثمينة الأخرى التّي يجري استغلالها من دون أدنى عائد، من تنمية ومداخيل للدّولة المالية، لمعرفة أنّ حديث الوزير لودريان عن استغلال "فاغنر" معادن مالي هو، بلاغياً، ترجمة فعلية لعبارة "رمتني بدائها وانسلّت"، لأنّ فرنسا تشير، بذلك، إلى أنّها الأولى باستنزاف تلك الخيرات، وأنّ قدوم الروس مجرّد تدخل في دائرة نفوذ هي ملك لباريس. ولعلّ ذلك ما رمى إليه الرئيس إيمانويل ماكرون، عندما قال، على هامش اجتماع وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي، يوم 2 فبراير/ شباط الجاري، إنّ الرئاسة الفرنسية الدورية للاتّحاد الأوروبي (اعتباراً من 1 يناير/ كانون الثاني 2022، لستة أشهر) يمنحها الحقّ في الاتصال مباشرة بالرّئيس الروسي بوتين، للحديث عن أزمة أوكرانيا. لكن، في الحقيقة، للحديث عن تجاوز روسيا حقوق فرنسا في دائرة نفوذ خالصة لها، في مالي، من خلال شركة أمنية روسية، هي "فاغنر".

الحقيقة التي يتغافل عنها الفرنسيون أنّ مشكلات القارّة انعكاس لسياسات استعمارية بحتة، تحاول باريس إدامتها فيها

اعتبرت الدوائر السياسية والإعلامية، في فرنسا، القرار المالي، طرد السفير الفرنسي تجاوزاً لسيادة فرنسا من بلد ما فتئت تساعده، بل جرى التركيز على فقدان فرنسا عسكريين منها (53 من جنودها تحديداً)، منذ 2012، من خلال "سرفال"، ثمّ "برخان" (عمليتا التدخل الفرنسي في مالي بعد انقلاب مارس/ آذار 2012)، بل أصبح الموضوع ضمن أجندة المترشّحين للانتخابات الرّئاسية الفرنسية (إبريل/ نيسان 2022)، إذ صدرت عن بعض منهم تصريحات تُذكّر بدور فرنسا "الأخلاقي" في القارّة، وإن ما تقوم به فرنسا جزء من قوّتها الدولية ودفاعها عن الحدود الأوروبية والمصالح الغربية، وإن كانت على بعد آلاف الكيلومترات من أراضيها.
لكنّ الحقيقة التي يتغافل عنها الفرنسيون أنّ مشكلات القارّة، وما يجري، على وجه الخصوص، في مالي، منذ 2012، انعكاس لسياسات استعمارية بحتة، تحاول باريس إدامتها في القارّة من دون أدنى اعتبار للتغيرات الجيوسياسية والحقائق الدولية على مستوى القارّة وفي العالم، عموماً، ومنها إرادة الدول الأفريقية الفكاك من الارتباطات مع الدّولة الاستعمارية السّابقة، فرنسا، وربط شراكات مصلحية مع دول أخرى، ترمي إلى تجسيد مصالح لدول القارّة بعيداً عن الإجحاف والفشل الذي لازمها جراء بقائها في دائرة نفوذ فرنسا، على الأصعدة كافة.
يجب التذكير، هنا، بأنّ الانقلابات التي نراها تتعدّد (مالي ثم بوركينا فاسو الواقعتان ضمن دائرة نفوذ فرنسا، وأخيراً محاولة غينيا بيساو، الغنية بالنفط والواقعة تحت تأثير شركة "توتال" النفطية الفرنسية) أخيراً، في دول القارّة، هي ترجمة فعلية لرفض الأفارقة سياسات فرنسا الاقتصادية والدّفاعية، على وجه الخصوص. وهي ترجمة فعلية، أيضاً، لأصوات باتت ترتفع في أفريقيا، أنْ كفى ما جنته علينا فرنسا من مظالم، وقد كان لبعضها وقع وصدى في القمّة الفرنسية الأفريقية منتصف العام الماضي (2021)، وجمعت الرّئيس ماكرون بممثّلين عن المجتمع المدني الأفريقي، حيث تمّ التّعبير عن وجوب اعتذار فرنسا عن تلك السياسات، بل وتعويض الأفارقة عن تداعياتها عليهم جرّاء التخلّف، الفشل والفقر، بل والصّراعات/ الحروب وهي الشّعارات، ذاتها، التي ارتفع صداها، منذ أعوام، في أكثر من دولة أفريقية، تتحدّث، كلّها، عن وجوب انسحاب فرنسا من القارّة وتوقفها عن استنزاف مواردها.

يتحدّث الجميع، في فرنسا، عن ورطة ماكرون، في أفق الرّئاسيات المقبلة، بسبب قرار مالي طرد السّفير

باتت الحقائق، بالنتيجة، واضحة وجلية وتحتاج من فرنسا إلى مراجعة، لكنّ الازدواجية في المعايير هي ما تملي ذلك على صانع القرار في باريس، إذ إنّ الرّئيس ماكرون، بشأن الهجرة وطالبي اللجوء، احتجّ بوجوب إدخال تغيير على القوانين الأوروبية، وبالخصوص "فضاء شنغن"، بسبب تغير الحقائق الجيوسياسية وبعض التّغيّرات على المستوى الدولي. لكن، بالنسبة إلى الأفارقة، عندما يُعلُون أصواتهم بوجوب إبعاد فرنسا عن موارد القارّة، ويندّدون بتدخّلاتها في الدول الفرنكوفونية مع إتباع ذلك بسعيهم لفك الارتباط بباريس، وربط شراكات مع قوى إقليمية ودولية غير فرنسا التي تقوم هنا بالانتقاد، وترتفع أصوات سياسييها وإعلامييها بأنّ على الأمور أن تبقى على ما هي عليه، من دون تغيير، ولأجل مصالح فرنسا الخالصة، من دون غيرها، حتى صاحبة الأرض والموارد.
يتحدّث الجميع، في فرنسا، عن ورطة ماكرون، في أفق الرّئاسيات المقبلة، بسبب قرار مالي طرد السّفير، ويتوجّس من أنّ الضربة، تلو الأخرى، منذ حادثة الغوّاصات الأسترالية، قد تهوي بباريس إلى أبعد ممّا هي عليه من مكانتها، خصوصاً أنّ ذلك يتزامن مع تشديد ألمانيا قبضة زعامتها على الاتّحاد الأوروبي، وبروز إرادة البيت الأبيض وإدارة بايدن في عزل فرنسا عن تزعّم مزعوم للأمن الأوروبـي، وكأنّ الضّربات المتوالية هي إيذان بتغييب فرنسا عن عالم ما بعد كورونا الذي، للتّذكير، تبقى الدّولة الوحيدة، من بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ممن لم تخترع لقاحاً له، وهي العلامة التي بات كثيرون يذكّرون بها، ويؤشّر بها على تلك المكانة المتراجعة، حتماً، لفرنسا على المستوى الدّولي، وعلى كلّ الأصعدة.