ياسمينة خضرا وإشكالية الهوية الجامعة في الجزائر
انتشر، أخيراً، على الفضاء الافتراضي، محتوى لمداخلة إعلامية حلّ فيها الرّوائي الجزائري، ياسمينة خضرا، ضيفاً. وكان من بين ما سُئل عن تعامله مع قرّائه لحظة البيع بالإهداء، ومن بين ما أجاب عنه، في كلمات خارجة عن إطار الحديث، قوله إنّه لا يوقّع على إهداء إذا كان صاحبه (صاحبته) ممّن يعرّف نفسه بأنّه قبائلي (أمازيغي)، معلّلاً ذلك بأنه تعبير عن إرادة لتقسيم الولاءات الانتمائية للبلاد (الجزائر).
بالرّغم من أنّ هذا التّصريح، وفق بعض المصادر، من العام الماضي، إلّا أنّه لم يظهر إلّا قبل أيام، وأوقع لغطاً كبيراً، وخصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كال كثيرون من سكّان هذه المنطقة الانتقاد للرّوائي على كلامه غير الدّقيق، حيث إنّه، بحكم موقعه الثّقافي، لا يجب أن يجهل أبديات التّنشئة وألف باء الهوية ببعديها، الجامع والمناطقي، في بلد شاسع، مثل الجزائر، يُجمع فيه أبناؤه على عشق بلدهم. لكن كلّ من منطلق جمعه بين البعدين، كما سيأتي، ردّاً على مقولة ياسمينة خضرا، من ناحية، ومنعاً من توسُّع النقاش إلى ما هو أبعد من الهويّة، بالبعدين المذكورين، من ناحية أخرى.
للهوية بعدان، جامع ومناطقي، وهما متكاملان يعيش بهما الإنسان، وهو مطمئنٌ إلى صحّة ولائه لبلده وحبّه كلّ ما تربّى عليه في أكناف عائلته الصّغيرة، ويحمل ذلك عنوان التنشئة الاجتماعية والسّياسية، حيث تكبر مع المرء، منذ صباه، وتغذّيه منابع عديدة صانعة المواطن، النّاخب، المحارب والمحبّ لوطنه ولمنطقته، قريته وعائلته، من دون صدامٍ يُذكر أو نقاش يعطر صفو التعاضد الاجتماعي والتّماسك المجتمعي، مما يكون ياسمينة خضرا لا يعرفه، حتّى تأتي كلماته تلك غير سوية وموقعة كلّ ذلك الانتقاد في الجزائر.
يعتبر الجامع، في بعد الهوية الأوّل، كل ما لا يمكن النقاش بشأنه، داخل المجتمع، أو بعبارة أخرى كل ما يحمل عنوان المقدّس من مكوّنات الشخصية الوطنية على غرار تاريخ البلاد، العلم، اللُّغة الرّسمية أو الرّسمية منها، دستورياً، إضافة إلى الحدود أو جغرافية البلاد، دينها الإسلامي، مذهبها الفقهي (المالكي)، بل وقراءتها القرآن (رواية ورش من ليبيا إلى المغرب)، مكانة الشهداء، بالنظر إلى ملايين من قضوا مقاومة وجهاداً ضدّ المستدمر الفرنسي، من 1830 إلى 1962، وهي قضايا كلّية جامعة لا تكاد تجد جزائرياً يخالف بشأنها أو يمكنه حتّى التّشكيك في إحداها.
تتفرّع من تلك الهويّة الجامعة هويّاتٌ فرعية ممّا نطلق عليه، في الجزائر، الفلكلور، اللّهجات المحلّية، الأطباق، الثّقافات المناطقية بما تتضمّنه من شعر، موسيقى وطبوع محلّية يفخر بها الكلُّ، ولكن في إطار التّنوُّع لبلدٍ مساحته قرابة 2.4 مليون كلم مربّع بصحرائها، تلّها وساحلها، ومن سكّان عاشوا تجارب مختلفة وتربّوا على تنشئات متنوّعة، لكن في تناغم تامّ وتكامل متّسق بين المكوّنين الجامع والفرعي/ المناطقي للهويّة، مما لم يفهمه ياسمينة خضرا.
للهوية بعدان، جامع ومناطقي، وهما متكاملان يعيش بهما الإنسان، وهو مطمئنٌ إلى صحّة ولائه لبلده وحبّه كلّ ما تربّى عليه
ومن يهُن يسهل عليه الهوان... تلك حال ياسمينة خضرا الذي استسهل، باحثاً عن الصُّعود الأدبي، على غرار أمثاله كمال داوود، بوعلام صنصال أو الطّاهر بن جلُّون، حيث ذهب، بعيداً، في عمليّة البحث تلك، مُبرزاً ذلك الولاء لتيّار أدبي ناكر للتّاريخ وغير مهتمّ بمكوّنات الهويّة، ظنّاً منه أنّ النّاس لا تقرأ أو تنسى التّصريحات، الكتابات والمواقف. ولعلّنا نذكر له، كلُّنا، تلاعبه برموز ثابتة في تاريخ البلاد، ليمتدح العصر الكولونيالي الفرنسي في روايته "فضل النهار على اللّيل" برمزيّة اللّيل الاستعماري (عنوان كتاب للمجاهد فرحات عبّاس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقّتة في أثناء الحرب التّحريرية الجزائرية الكبرى)، ومقابلته بالنّهار الذي يمثله استقلال الجزائر، محاولاً، زعم محاكاة قانون تمجيد الاستعمار الذي كان قد اقترحه الرّئيس الفرنسي الرّاحل جاك شيراك على البرلمان الفرنسي، ورُفض بعد تنديد الجزائر والمثقّفين الشُّرفاء في فرنسا نفسها، ليكون ياسمينة خضرا هو من يجعل ذلك التّمجيد قرباناً لطبقة سياسية ومثقّفة فرنسية تشعر بالحنين للاستعمار الاستيطاني الفرنسي، لعلّها تمنحه جائزة ما منعتها عن أقرانه من الأدباء الجزائريين الذين كتبوا، مثله، باللُّغة الفرنسية، ولكنّهم كانوا في مستوى تاريخ بلادهم وهويتها، وليس ضدّها كما فعل خضرا بروايته تلك.
لم يتوقّف ياسمينة خضرا عند هذا الحدّ، بل كانت رواياته، كلُّها، برمزياتٍ متناقضة مع سياقات هويّة الأمّة في رؤيته إلى الإرهاب والحرّية، وإلى ظواهر وجوديّة أخرى، مضمّناً أعماله الأدبية ذلك التّوجُّه المصرّ على مسار محاباة الآخر الكاره هويّة الجزائر من منطلق المطالبة والإصرار على المطالبة بثلاثية الاعتراف، الاعتذار ثمّ التّعويض، من المستوطن الفرنسي عن جرائمه المقترفة قرناً ونيف من استيطانه. وكان لياسمينة خضرا وأمثاله ممّن ذكرناهم، من الجزائريين، مواقف تساند فرنسا، لكننا لم نعتقد، يوماً، أنّ سياقات الهويّة مختلطة عنده إلى هذه الدّرجة التي لا يفرّق فيها بين الهويّة الجامعة والهويّة الفرعيّة أو المناطقية، بحكم أنّه من النُّخبة المثقفة، وباللعب على وتر التّوافق المجتمعي، بتصريحه الذي تصدّر هذه المقالة،
والذي يدلل سياقه على الخلط في سياقات الهويّة، في الجزائر، وهو ما لا يمكن أن يصدر عن روائي من المفترض أن يكون كلامه منفتحاً لاستيعاب الاختلافات والتّنوعات الاجتماعية، الثّقافية والأنثروبولوجية الجزائرية، ليكون ذلك دليلاً إضافياً على قصور في الرُّؤية وفي فهم المجتمع الجزائري. أو، إذا وسّعنا النّظر إلى المسألة بصفة واقعية، محاولة غير موفقة للحديث عن مسألة الوحدة الوطنية، لأنّ كلامه، بعد كلماته المذكورة، تضمّن الإشارة إلى ضرورة التعريف بالهوية الجامعة، وليس بالهوية الفرعية، وهي مسألة معروفة، في الجزائر، حيث يعمل الجميع على التعريف بالنفس من خلال الانتماء الجامع، وهو الأغلب ويراه الكل بل ينتقد الجزائريين، بسببه، مثل ذلك السُّلوك الذي أضحى ملاصقاً لهم برفع العلم في كلّ مكان خصوصاً في التّظاهرات الرّياضية الدّولية، حتّى التي لا مشاركة للجزائر فيها.
على الجميع، في الجزائر، نبذ ذلك التفريق، عن جهل، بين الهويتين، الجامعة والفرعية المناطقية، فالمخيلة والسلوك يضعان كلاً منهما في المكان اللّائق به
أمّا التعريف الذي انتقده ياسمينة خضرا، أي بالهويّة الفرعية، فهو سلوكٌ لإبراز الانتماء المناطقي من دون بُعد الإعلاء منه على حساب الانتماء الجامع، لأنّ الكلّ يستخدم الهويتين في آن واحد، ويعرف كيف ينتقل من الأولى إلى الأخرى، وترتيبهما في مخيّلته وفي عقله. ولا مشكلة لدى كل الجزائريين إلّا من شذّ، والشّاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه، وهو ما لا يُعقل أنّ الروائي كان يقصده، لأن تلك الأقلية منبوذة في كلّ الجزائر وفي المنطقة القبائلية، نفسها.
نصل إلى المسألة الأخرى الحيوية، وهي المتّصلة بمضمون الانتقادات التي كيلت لتصريح ياسمينة خضرا، ووصلت إلى درجة رمي بعضهم رواياته، في المزابل، مصوّرة وموثّقة على وسائل التواصل الاجتماعي، ذلك أنّ التصريح موجعٌ لسكان المنطقة التي عناها خضرا في كلامه، وهم منصهرون، على غرار مواطنيهم من الجزائريين، في بوتقة الهوية الجامعة بمكوناتها المذكورة، ولا يرون بأساً ولا مساساً بها، عندما يتحدّثون عن ذلك الانتماء الفرعي بكل ما يتضمّنه من ثراءٍ يعرف خضرا، تمام المعرفة، أنه يضيف إلى ثراء الجزائر وتنوُّعها ولا يحمل أي تضارب، لا في المخيلة، ولا في الممارسة، من الكل ومن سكّان المنطقة، على وجه الخصوص.
على الجميع، في الجزائر، نبذ ذلك التفريق، عن جهل، بين الهويتين، الجامعة والفرعية المناطقية، فالمخيلة والسلوك يضعان كلاً منهما في المكان اللائق به. وكان الأجدر بياسمينة خضرا إنتاج روايات وأعمال أدبية يعتذر بها عن تلاعبه بالرّموز الهوياتية الوطنية، وليس الاستمرار في اجترار سياقات تفكير إرضائية لمن ينتظر منهم أن يمنحوه جائزةً ما. وليعلم أنّ آسيا جبّار، مولود معمري أو محمد ديب، ومعهم الطاهر وطّار ومولود فرعون وعبد الحميد بن هدوقـــة ومالك حداد، رحمهم الله، لم ينالوا حتى مجرّد الترشيح لجائزة نوبل، وهم يستحقونها، وبخاصة الثُّلاثي العملاق ديب وجبّار ومعمري، بسبب كنايات هؤلاء، جميعاً، المتضمّنة التعبير عن معاناة الجزائريين إبّان الاستعمار الاستيطاني وإبراز الشخصية الجزائرية بكل أبعادها في أثناء "اللّيل الاستعماري" الذي حاول خضرا وداوود، ومعهما صنصال، التّنصل منه، بكلّ أسف، بحثاً عن الشُّهرة والجوائز. وللأسف، مرّة أخرى، من خلال تصريحات غير مسؤولة ذات أبعاد خطيرة تمسّ التّوافق المجتمعي في الجزائر.