انفجار التاريخ في وجوه المدن الميّتة
تقول التصريحات الأميركية الرسمية الصادرة خلال الأيام القليلة الماضية، بكلّ وضوح، إنّ هذا السعار الإمبريالي الذي يظهره الكيان الصهيوني تعبير عن عقيدة أميركية متجذّرة، متجاوزة للتباينات الحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين، تريد إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط (القديم)، وتستبدل به شرق أوسط يتمدّد في كهف الحلم الصهيوني الأميركي منذ عقود.
لم تكن أميركا بهذا الوضوح في التماهي مع الحلم الاستعماري الصهيوني للشرق الأوسط من قبل، وكذلك هي فرنسا وبريطانيا، والإمبراطوريات القديمة كلّها، الساقطة، التي تجد قيامتها وانبعاثها من جديد في المشروع، الذي أودعت فيها مدّخراتها كلّها من الصلف الاستعماري، الذي أسقطته نضالات الشعوب المقهورة في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي.
يقول كارل ماركس، في كتابه "الثامن عشر من بروميير"، إنّ الناس يصنعون تاريخهم بيدهم. إنّهم لا يصنعونه على هواهم، إنّهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروفٍ يواجهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء، وعندما يبدو هؤلاء منشغلين في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم فقط، لإيجاد شيء لم يكن له وجود من قبل، عند ذلك بالضبط، نراهم يلجأون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماءَ والشعاراتِ القتاليةَ والأزياء لكي يُمثّلوا مسرحيةً جديدةً على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكّري، الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المُستعارة.
نحن، إذن، بصدد انفجار التاريخ وانبعاثه من شقوق الذاكرة، إذ يعود الغزاة الأوائل في ملابس عصرية، ويعود الولاة الخونة أيضاً في ثيابٍ اختارها لهم الأعداء، ويعود كذلك الأبطال التاريخيون بأسماء جديدة، فيعبّر الجانب الأميركي بكلّ وضوح عن أنّ الحرب على لبنان وغزّة واليمن هي معركته الكبرى الجديدة القديمة، ويعلن سعادته ومباركته جريمة اغتيال سيّد المقاومة العربية حسن نصر الله، فيقول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي يُفاخر طوال الوقت بنشاطه يهودياً صهيونياً، إنّ العالم صار أكثر أمناً بعد اغتيال نصر الله، ثمّ ينشر مجلس الأمن القومي بوقاحةٍ استعمارية شديدة الوضوح أنّ غزو لبنان برّاً حقّ مشروع لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، مُقرّاً بكلام سفير الاحتلال في واشنطن أنّ "الإدارة الأميركية فهمت طبيعة العملية في لبنان، ولم تقيّدنا بالوقت".
زيارة وزير خارجية فرنسا إلى لبنان وتصريحاته عن إعادة ترتيب النظام السياسي اللبناني بعد استبعاد حزب الله، تبدو هي الأخرى استعادةً لمشاهد من زمن البونابارتية الاستعمارية القديمة، ليتقاطع مع الموقف الاستعماري الأميركي المُتغطرس الذي كان حاضراً على نحوٍ أوضح مع تسريب المعلومات من واشنطن عن هجوم إيراني على الكيان أمس، ثمّ مع تصريحات عجوز البيت الأبيض صاحب مقولة "يمكنك أن تكون صهيونياً من دون حاجة لأن تكون يهودياً"، التي طلب فيها من أركان إدارته التدخّل لحماية إسرائيل من الصواريخ الإيرانية.
على أنّ التاريخ القديم، بكلّ قبحه ودمامته، يحضر مع النظام الرسمي العربي الآن، والذي يبدو منقولاً من زمن سايكس بيكو، إذ يهرول الولاة خلف المُستعمِر للحصول على قطعةٍ من لحم الجغرافيا الجديدة، لنشهد لحظةً كنّا نحسبها من الهلاوس والكوابيس قبل خمس سنوات فقط، حين شنّ الاحتلال عدواناً خاطفاً على لبنان، فتصوَّرنا وقتها أننا أمام مشهد يتجاوز القدرة على التخيّل، إذ كان لبنان في مواجهة الفعل الصهيوني والصمت العربي المنتقل من حالة العجز إلى حالة المباركة والتشفّي.
أمّا وقد صار الكيان الصهيوني واثقاً من القضاء نهائياً على مخزون العرب من حمرة الخجل، ومطمئنّاً إلى تأييد رسميين عديدين يستبسلون في الانحناء أمامه، فإنّ المُؤكّد قولاً وفعلاً أنّ أقوى سلاح لدى الكيان هو النظام الرسمي العربي، إذ بات لهؤلاء القتلة في عواصم العرب من يتعاون معهم عسكرياً، ومن يتقاسم معهم أرباح الغاز، ومن يمدّهم بما يحتاجون من خضار وفاكهة، ومن يفتح أجواءه لطائراتهم، ومن يتصدّى للمُسيَّرات التي تستهدفهم.
وكما يحضر الغزاة والولاة التابعون، تنبعث وجوه الأبطال هي الأخرى، فيحضر الشهيد عزّ الدين القسّام ممثّلاً في الشهيد إسماعيل هنيّة، وفي محمّد الضيف، ويحيى السنوار، والشهيد حسن نصر الله، يعيدون لملمة ما تهشّم من الروح العربية المهزومة، لنجد التاريخ كلّه وقد انفجر في وجوهنا بالمعادلات القديمة كلّها، غير أنّه ينفجر في وجه عواصم ومدن ميّتة أو مقتولة، من كثرة القمع وشدّة طغيان الولاة، فمتى تعود الجماهير كما عادت كلّ الأطراف؟