انسحاب ووزارة دفاع غاضبة

23 ديسمبر 2018
+ الخط -
يقرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن تغادر قواتُه العسكرية سورية بشكل عاجل وسريع، لينفي بعدها وزير خارجيته، مارك بومبيو، عن هذا القرار تهمةَ التعجل أو العشوائية، بالقول إن القرار اتُّخِذَ بعد التشاور مع كبار المسؤولين الأميركان، بمن فيهم بومبيو نفسه.
بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على إعلان القرار، يستقيل وزير الدفاع، جيمس ماتيس، الأمر الذي يعكس خلافات داخلية عميقة، تجعل مسؤولاً بهذا الحجم يخرج من الإدارة، بالإضافة إلى تغريدات أعضاء مهمين في الكونغرس الأميركي، ومن حزب الرئيس، تعارض الخروج العسكري من سورية بشدة. أما الشخصية القوية الثالثة في الإدارة الأميركية، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، فلم يظهر بعد، ولكنه كان قد صرح قبل ثلاثة أشهر إن الولايات المتحدة ستحافظ على تواجد قوي ومؤثر في الشمال السوري، لمعادلة الوجود الإيراني، ولن تخرج قبل أن ينتهي أي وجود إيراني، أو حليف لإيران، في سورية. وشخصية تعد من الصقور مثل بولتون لن تجد هذا القرار مريحاً، ولكن ترامب، في سياق تبرير قراره، لجأ إلى أسبابه المفضلة، وهي أن أميركا تدفع تكاليف كثيرة نيابة عن الآخرين في الشمال السوري، ولا تجد تقديراً من أحد. واستفاض مبرراً بأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هو العدو الطبيعي للأسد وإيران وروسيا، وعلى هؤلاء أن يخوضوا معاركهم بأنفسهم، لا أن تخوضها أميركا بالنيابة عنهم، وهذا يناقض حجته السابقة إن "داعش" قد تم دحرها، ولا موجب لوجود أميركي في الشمال السوري.
الإخلاء الأميركي العاجل، وقد يستغرق ستة أشهر، وإن حصل سيخلق فجوة هائلة، فالمنطقة التي تتمتع بحماية القوة الأميركية تبلغ ربع مساحة سورية، وهي منطقة فعالةٌ اقتصادياً، بسبب وجود معظم حقول النفط والغاز فيها، بالإضافة إلى متاخمتها الضفة الشرقية لنهر الفرات، حيث الأراضي المرويةُ الخصبة ذات المنتوجات الاستراتيجية من القطن والقمح.
عبَّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سعادته بقرار ترامب، وحذر الكرملين من التداعيات. من الممكن أن يتخيل كل من الأسد وبوتين سقوطاً متلاحقاً لصالحهما في الشمال السوري، يشابه تساقط المساحات الجغرافية في أيديهم خلال الصيف الفائت، لكن تنظيم الدولة الإسلامية لم ينتهِ بالفعل كما قال بوتين، وما زال قادراً على إعادة هيكلة نفسه، والانطلاق من جديد. وكانت هناك "بروفة" لعودته حدثت قبل شهر، عندما تمدّد بقوة على حساب القوات الكردية، ولم يتراجع إلا بتدخل مؤثر من الطيران الأميركي، وهذا لن يكون متوفراً لاحقاً.
أبدت تركيا ارتياحاً، فيما لم تبد إيران ردة فعل محسوسةً حيال القرار الأميركي، ولكن من الممكن أن يكون له أثر طيب لديها، فإيران ستتخلص من كابوسٍ عسكريٍّ، يحد من طموحاتها، ولن يبقى ما يهدد تجمعاتها العسكرية و"الثقافية" في سورية، وتركيا ستجد نفسها بمواجهة حرة مع الفئات الإرهابية المنضوية تحت رايات الكرد، وسيخفّف هذا الخروج الأميركي لهجة المواجهة التركية والأميركية، بعد انعدام نقاط التماس العسكري بينهما، ورفع اليد الأميركية عن القوات الكردية في الشمال. تبقى إسرائيل التي ستبدي قلقاً عميقاً في حال خلو الأراضي السورية من القوات الأميركية، وقد كانت تشكل ضمانة لكبح التمدّد الإيراني، وقد تزداد حينها وتيرة هجماتها الجوية على الأراضي السورية.
يطرح الخروج الأميركي معادلة جديدة، وإعادة ترتيب المقاعد حول المائدة من دون أن يتغير المدعوون، لكن فقط تتراجع بعض الأدوار وتتقدم أخرى، وذلك كله يجري وكواليس اللجنة الدستورية السورية حامية. ويشكل التغير الجديد عاملاً حاسماً في طريقة تشكيل هذه اللجنة. وقد يظن كثيرون أن الأسد رابح في كل الأحوال، لكن الرهان الأكبر على دور تركي قوي ومتناسب مع تطور الأحداث، بالإضافة إلى ما يمكن أن يحققه تنظيم الدولة الذي يستلزم كبحُ جماحه قوة كبيرة، يجب سحبها من أماكن أخرى، ما يرشح المشهد كلياً لإعادة ضبط قد يأتي بصورة أخطر من التوقعات.