الشرق الأوسط... والتصعيد بلا جبهات

04 اغسطس 2024
+ الخط -

نفّذت إسرائيل وعيدها بالرد على هجمة حزب الله على مجدل شمس بضربتين متزامنتيْن، استهدفت الأولى عاصمة حزب الله في الضاحية الجنوبية، والثانية عاصمة إيران في طهران، وباغتيال اثنين من رجال الصف الأول في حركة حماس وحزب الله، بطريقةٍ تشبه حبكة سيناريو فيلم سينمائي، نقلت إسرائيل الكرة بعيداً إلى الملعب الآخر، ما سيتطلّب وقوفاً ملياً من الجانب الآخر لتنظيم الصفوف، وربما تنظيفها، فقد كشفت عمليتا الضاحية وطهران الاختراق الكبير ضمن صفوف المقاومة، باستهداف أماكن ذات حراسة مشدّدة، ومراقبة على مدار الساعة، وقد بيّنت دقة الضربات عمق الاختراق، كما وضّحت الديناميكية التي تمتلكها إسرائيل في سرعة الرد، ما يعني أن لديها لائحة معدّة مسبقاً تحسّباً لمثل هذه الظروف. وقد أكّدت قبل أيام مقتل محمد الضيف، المسؤول العسكري في كتائب القسّام، في غارة إسرائيلية جرت قبل أسبوعين، ولم تقف مكاسبها من هذه العمليات على إعادة الاعتبار لذاتها والبرهنة على قدرتها الفائقة في الرد، بل حققّت ارتباكاً في الصف الإيراني وحلفائه، كما حقّق نتنياهو إمكانية عرقلة مفاوضات وقف الحرب في غزّة مرّة جديدة، من دون أن يتلقّى لوماً دولياً.

ستجبر الصفعة القوية طهران على الرد بطريقةٍ ما، ما يعيد إلى الأذهان المغامرة الليلية الفاشلة لثلاثمائة قذيفة وصاروخ ومسيّرة أطلقتها طهران، قالت إسرائيل إنها سقطت جميعها خارج مجالها الجوي، ولكن أجواء الشرق الأوسط عاشت ليلة قلقلة، غيّرت خطط شركات الطيران، وأربكت مسؤولي المطارات في المنطقة.

يُبقي هذا السجال الإقليم على حافّة الانفجار فترة طويلة في انتظار الردّ والردّ المضاد، ومن الممكن أن يجد حزب الله نفسه معنيّاً بالأمر، وقد قُتل أحد قادته داخل مربّعه الأمني الحصين. وكان القيادي في "حماس" صالح العاروري قد قضى أيضاً بضربة إسرائيلية على الضاحية، ورد حزب الله على مقتله برشقة صاروخية عبر الحدود، وهي الطريقة التقليدية التي يردّ بها، بعد أن يطلق قادته شلالاً من الوعيد يبقي المنطقة على مستوىً ملحوظ من السخونة.

بدأ الردّ على هجوم الضاحية أخيراً بخطاب لأمين عام حزب الله حسن نصر الله في تأبين القيادي المقتول، حيث أعاد ما قاله سابقاً عن تجاوز الخطوط الحمراء، وأن على إسرائيل أن تنتظر الرد الذي قد يتأخّر قليلاً، وانضم زعيم جماعة أنصار الله الحوثي إلى حزب الله، وتوعّد هو الآخر إسرائيل برد عسكري. شحنت هذه التهديدات المنطقة من جديد، وارتفع منسوب الخطر، وزاد التكهّن بانفلات الأمور، وهذه الأجواء الساخنة أيضاً من الأعراض التي تختبرها المنطقة بعد كل موقفٍ مشابه، ما يعني أن ما يحدث يشكّل "دورة" منتظمة من التصعيد تعقبها تهدئة، ليفور الوضع مرة أخرى ثم يعود إلى الانخفاض، ولا تغيب الولايات المتحدة عن المشهد، فهي تسارع إلى التصريحات حول ضبط النفس وعدم الانزلاق، والتحذير من شكل الردود، رغم وقوفها بالكامل في جانب معروف. ويبدو أن كلام مسؤوليها قد أصبح جزءاً أساسياً من السيناريو المعاد.

منذ عام 1990 وإحكام الأسد الأب السيطرة على لبنان وتسيّد حزب الله مشهد الجنوب، تعاني المنطقة من هذه الدوامة، تراشق ثم انزلاق يعقبه هجوم واسع، لكن المشهد أصبح أوضح بعد خروج إسرائيل من غزّة في العام 2005، حيث مارست "حماس" دوراً مماثلاً، من دون أن يحقق هذا الحوار الساخن مع إسرائيل كسباً كبيراً للقضية التي يتبنّاها التجمّعان المسلحان، وقد ساهم الصراع بهذه الطريقة في حرف مسار القضية الأساسية بشكلٍ خطيرٍ أودى بها بعيداً، واستعيض عنها محلياً بعشرات القضايا الجزئية، والمشهد الحالي المتأزم قابلٌ للتكرار، فإسرائيل قادرة على ابتلاع الخسائر الناجمة عن صراعٍ من هذا النوع، وقادرة على ردّ اعتبارها. ومع مرور الوقت، ينحسر الغطاء عن النضال العشوائي بسبب التكلفة المادية والبشرية الكبيرة، والفشل الاستخباري، والاختراق الذي تبيّن أنه أعمق مما كان الجميع يعتقد.