انتفاضة السويداء واختبار السلطة البديلة
في الثُلث الأخير من شهر أغسطس/ آب الماضي، استجاب عشرات فقط من الأهالي لتنفيذ وقفة احتجاجيّة داخل ساحة السير (لاحقاً ستُعرف باسم ساحة الكرامة) وسط مدينة السويداء في جنوب سورية، حينها كان الهدف المنظور لتلك الوقفة أن يرميَ المحتجّون سُخطهم بوجه السلطة الحاكمة، بعدما رفعت أسعار حوامل الطاقة والمشتقات النفطيّة (ستعود وتكرّر ذلك مرّاتٍ عديدة خلال العام الماضي، وهذا العام أيضاً)، ثمَّ استبدَّ، وخلال الأيام الأولى من عمر تلك الوقفة تخيّلٌ سياسيّ اعتيادي مفاده أنّ ذاك الاحتجاج لن تغذّيه سوى أعداد محدودة من المتظاهرين أسوةً بسوابقه من احتجاجات محلية كانت تظهر مترددةً في تلك الجغرافية ذات الغالبية الدرزيّة، وهذا الذي لم يحدث، إذ سرعان ما استجاب لها الريف، وصار أبناؤه هم الشريان الرئيسي الذي رفد تلك الوقفة، ونقلها خلال أقل من شهر واحد إلى خانة الانتفاضة الشعبية، وهي مستمرّة، وإن على نحوٍ أقل جموحاً من السابق.
لكن انعطافاتٍ عديدة شابت تلك الاستمرارية، جعلت من الانتفاضة تخضع لتبدّلات ملحوظة في الشكل والمضمون، بعدما أحاط بها السياسيون منذ نهاية أسبوعها الثالث، وشرعوا سباقاً فيما بينهم لاحتلال مساحاتٍ مؤثرة داخلها، فكثرت الأجسام السياسية التي نشأت في محيطها ابتداءً بالهيئة السياسية للعمل الوطني ثم الكتلة الوطنية ووصولاً إلى تيار سورية الفيدرالي، من دون أن يكون بمقدورها جميعاً أن تُقدّم ما يمكن استثماره براغماتيّاً داخل أروقة انتفاضة السويداء، والتي أخذت تتحوّل تدريجياً إلى وقفة احتجاجيّة تصل ذروتها في يوم الجمعة فقط من كلّ أسبوع، وذلك بفعل التشظّي السياسي الحاصل، وقد أحاطها بدايةً، ثم لوى عنقها بقسوة، فتلاشت الوقفات الاحتجاجية المسائية التي ظهرت في الريف، وبالتحديد في نقاط الحراك الفاعلة بعد أشهر قليلة على بدء انتفاضة السويداء، وتراجع الزخم الشعبي الذي صاغ تلك الانتفاضة اعتباراً من أواخر خريف العام الماضي، ربما مردُّ ذلك يكمنُ في الإدراك العميق الذي هيمن على فئات شعبية عديدة صنعت انتفاضة السويداء، والذي كان يَسْهُلُ أن تتهجّاه أبجدياً، بغياب الجدوى السياسية من مزاولة نزولهم إلى الشارع بصورةٍ يوميّة، أو يوم الجمعة على الأقل، ولم يستطع الشكل التنظيمي للحراك حين تطوّر من البداهة والعفويّة، إلى اللجان المتخصصة، من تعويض هذا الفاقد الحيوي، إذ كان همّهُ الاحتفاء بالجانب السينوغرافي البصري لمظاهرات يوم الجمعة بصورة خاصة، وبالرغم من المبادرات العديدة، ذات الطابع الاستعراضي الاحتفالي، والتي ظهرت داخل ساحة التظاهر، من إعلان خطوبة ناشطين مثلاً، إلى تنظيم حفلة زفاف في مرّةٍ ثانية، أو حتى الاحتفال بمواليدَ جدد، أو إطلاق أغان خاصة بالحراك، أو الدخول الكرنفالي للمتظاهرين في مرّات عديدة إلى الساحة، كلُّ ذلك بدا عاجزاً عن استعادة من هجروا فكرة المواظبة على النزول إلى الشارع.
تعدد مكونات المشهد السياسي في السويداء، وارتباط أغلب تلك المكونات بمرجعيات خارج المحافظة
ولعل السجال المديد الذي التحقَ بمسألة رفع علم الاستقلال، أو علم الثورة، (يسمّى أيضاً العلم الأخضر) بكثافة عالية منذ بداية العام الحالي جاء في فترة تراجع المشاركة الشعبية بالحراك، واعتراض كثيرين عليه، وتعليق مشاركتهم بسببه، ومعظمهم كان قد فقد أبناءه تحت تلك الراية التي رفعتها أيضاً التنظيمات الإسلامية المسلّحة، خلال مواسم اشتباكاتها الطويلة مع جيش النظام السوري، وحلفائه.
في المقابل، كان من الهيّن التشكيك بمرجعيّة انتفاضة السويداء خلال أشهرها الأولى، حين كانت تكتفي فقط برفع العلم الرسمي للطائفة الدرزيّة بألوانه الخمسة المعروفة، ورايات عديدة (تسمّى بيارق) تمثّل أسماء القرى، والعائلات المشاركة في مظاهراتها اليوميّة، فكان الحراك وفي وقتٍ مبكّر منه مضطراً لاعتناق "المذهب التبريريّ" كمستندٍ قيّم الدلالة في الخطاب السياسي الموجّه إلى خارج السويداء، وهذا قاد الحراك، والمشرفين عليه، وفي وقت مبكّرٍ أيضاً إلى المبالغة في قبول الخضوع إلى فحص دماء الانتفاضة، لأجل مصادقة الخارج عليها، وتبيان زمرتها، وما إن كانت وطنية، أم طائفيّة، وهذا صَادَرَ الكثير من بديهيّات الحراك ذي الطابع الشعبيّ في أوّله، ونقله إلى سراديب السياسة بكل تلوّناتها البراغماتيّة المظلّلة، والموحلة.
قاد ذاك السجال ومتمّماته السلوكيّة داخل ساحة التظاهر المشرفين على تسيير شؤون المظاهرات إلى منع رفع أيّ من العلمين من قبل المتظاهرين، ولا سيما في تظاهرة يوم الجمعة، والاكتفاء بتثبيت العلمين إلى جوار بعضهما على المنصة الرئيسية داخل الساحة. وبالرغم من ذلك لم يتحسّن واقع الإقبال الشعبيّ على المشاركة في مظاهرة يوم الجمعة المركزيّة منذ الشروع بتطبيق ذلك القرار قبل نحو شهرين.
يَسهُل تلمّس تشكّل ما يشبه "السلطة البديلة" لسلطة النظام، وإنْ لا تزال تقبع ضمن أطوارٍ جنينيّة تجريبيّة
في المقابل، يَسهُل تلمّس تشكّل ما يشبه "السلطة البديلة" لسلطة النظام، وإن لا تزال تقبع ضمن أطوارٍ جنينيّة تجريبيّة، بعدما تمكّنت العديد من نقاط الحراك في قرى السويداء من إغلاق مقرّات فرق حزب البعث فيها، وكذلك فعل المتظاهرون في المدينة، ثمّ تمّ استبدال هويّة تلك الأماكن المستولى عليها من قبل الحراك السياسي، وصارت مقرّاتٍ لاجتماعاتهم يبحثون فيها شؤون التظاهر، والشأن العام، لكن ما يخرجون به من اجتماعاتهم تلك، لا يمتلك حتى اليوم الثقل المناسب الذي يخوّله ليكون قراراً ذا صفةٍ مرجعيّة عامة، أو يجد أدوات ملائمة تُجيز تنفيذه.
أيضاً، يحاول الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في السويداء، أن يجد انسجاماً سياسياً بين كلّ الأحزاب والكتل والتيارات السياسية التي استوطنت إلى جوار مساحة التظاهر منذ تبلورها، بغرض استيلاد جسم سياسي تستسيغه كلّ المرجعيات السياسية، أو أغلبها على الأقل، وكذلك يريد بلوغ الحدّ الملائم من الانسجام العسكري بين الفصائل المحليّة المسلحّة التي لا تدين بولائها إلى الأجهزة الأمنية السورية، أو المليشيات الإيرانية، والدفع بها لأجل تشكيل جسم عسكري واحد، له اسم، ومرجعية واحدة، وبالرغم من أنه لم يحقق نتائجَ هامة على صعيد الملفّين السياسي والعسكري في السويداء المنتفضة ضد نظام بشّار الأسد، لكنه يسعى جاداً لأجل بلوغ تلك الغاية، إذ ثمة معوقات موضوعية وذاتية تُصعّب الأمر عليه، ولا يمكن نكرانها، مثل تعدد مكونات المشهد السياسي في السويداء، وارتباط أغلب تلك المكونات بمرجعيات خارج المحافظة. وينطبق هذا الأمر على الفصائل المحلية المسلّحة، ما يزيد من صعوبة استمالتها نحو نقطة واحدة، لكن هذه الجهود المبذولة لديها كلّ مقاربات الجنوح نحو تشكيل سلطة بديلة تكون خارج منظومة سلطة بشار الأسد الرسمية، وهي حالياً سلطة ناشئة تتشكل ببطء، وبصورة غير منظورة أو محسوسةِ التجلّيات على الأرض، ويحتاج انتقالها إلى مستوىً أكثر نضجا المزيد من الوقت والاختبار، حتى تصل إلى المستوى المطلوب من التجذّر في السياق الاجتماعي والسياسيّ العام.