انتخابات مغربية من دون رهانات سياسية
يُدعى اليوم، الأربعاء 8 سبتمبر/ أيلول 2021، نحو 18 مليون مغربي للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية والبلدية التي تجري في اليوم نفسه لتجديد مؤسسات بلدهم المنتخبة، في مقدمتها البرلمان المفترض أن تنبثق منه أغلبية حكومية جديدة. وهذه ثالث استحقاقات تشريعية يشهدها المغاربة منذ "الربيع العربي" الذي تمخض في المغرب عن سياسة مزدوجة من الاحتواء والقمع، نهجتها السلطات المغربية منذ 2011، لإجهاض مطالب الشارع كما بلورتها حركة 20 فبراير، المطالبة بالإصلاح الديمقراطي السياسي، واعتمدتها لإخراس الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، عندما بلغت ذروتها عامي 2016 و2017 مع مظاهرات منطقة الريف المهمشة في أقصى الشمال المغربي.
تجري هذه الاستحقاقات في سياق مغربي متسم بالأزمة على أكثر من مستوى، خصوصا في المجال الاقتصادي والاجتماعي، ما فاقم من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها الفئات الأكثر هشاشة، وسكان مناطق الظل المنسية، وهو ما حوّل شوارع مدن المغرب وأريافه طيلة العقد الأخير إلى مسرح للاضطرابات والاحتجاجات الاجتماعية المستمرّة التي غالبا ما تُواجَه بالقمع العنيف. وعلى المستوى السياسي، أدّى وضع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستمرة من دون حلولٍ تجني ثمارها الفئات المتضرّرة منها، إلى نوعٍ من الإحباط والاستياء الشعبي العام، وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة العاجزة عن الاستجابة لمطالب الناس المشروعة، المتمثلة في حقوقهم الرئيسية في التعليم والصحة والعمل والسكن. وزاد من مفاقمة هذا الوضع الفساد في دواليب الدولة، حتى كاد يتحول إلى عقيدة مقدسة يصعب النيل منها، وهو ما كشفت عنه أزمة وباء كورونا وتداعياته القاسية على الاقتصاد، ما رفع من نسب الفقر داخل المجتمع، وبالتالي من منسوب خيبة الأمل لدى فئاتٍ عريضةٍ من المغاربة، فقدت ثقتها في المسار الانتخابي الذي يعيد إنتاج المؤسسات نفسها التي لا تحكم، فيما النظام الحاكم الذي يختزله "المخزن" والمتمركز حول القصر وشخص الملك، لا يُنتخب ولا يَخضع ممثلوه لأي محاسبة كيفما كان نوعها. وهذا هو ما يفسّر خوف السلطات المغربية من ظاهرة العزوف الانتخابي المتزايد، ودفعها في هذه الاستحقاقات إلى تنظيم الانتخابات البلدية والتشريعية في يوم واحد لأول مرة في تاريخ المغرب، لضمان أكبر نسبة من المشاركة السياسية في اقتراع اليوم.
لن يطرأ أي تغيير ملموس على حياة فئاتٍ واسعة من المغاربة فقدت ثقتها في تحسين ظروف معيشتها، في ظل المنظومة نفسها التي تحكم من خارج المؤسسات المنتخبة
من بين أهم أسباب فقدان الثقة في العمل السياسي في المغرب حالة المراوغة التي تقوم بها السلطات باستمرار، للالتفاف على كل مزاعم الإصلاح التي تطرحها هي من تلقاء نفسها، أو تفرضها عليها الظروف والسياقات الدولية والإقليمية، ما أدّى إلى تعثر كل عمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي التي ما زالت تدور في الحلقة المفرغة نفسها منذ تولى الملك محمد السادس العرش عام 1999. وتفاقم هذا الوضع طوال العشرية الماضية مع ارتفاع منسوب القمع العنيف الذي واجهت به السلطات مطالب السكان، بما فيها تلك البسيطة المتعلقة بتوفير الخدمات الاجتماعية الأولية، وانتهى المطاف بأصحابها في غياهب السجون بأحكام ثقيلة، تصل إلى 20 سنة، كما حدث مع قادة "حراك الريف" القابعين وراء القضبان. وطاولت حالات القمع أصواتا حرّة منتقدة متمثلة في صحافيين مستقلين ونشطاء مدنيين حقوقيين، تعرّض كثيرون منهم، طوال السنوات الأخيرة، للتضييق والمحاكمات والسجن، بهدف إخراس أصواتهم. وثمّة اليوم ثلاثة من ألمع الصحافيين المغاربة يقضون عقوبات سجنية بأحكام ثقيلة، وصلت إلى 15 سنة سجنا نافذا، يؤدّون ثمن جرأتهم على انتقاد حالة الهيمنة التي باتت تفرضها الأجهزة الأمنية على كل منافذ الفعل السياسي والإعلامي في المغرب، وهو ما أدّى إلى إشاعة جو من الخوف العام داخل المجتمع، هو الذي تجري في ظله هذه الاستحقاقات من دون رهانات سياسية حقيقية.
من بين أهم أسباب فقدان الثقة في العمل السياسي في المغرب حالة المراوغة التي تقوم بها السلطات باستمرار
وحتى بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، الذي قاد الحكومة ولايتين متتاليتين، فإن نتائج انتخابات اليوم، سواء أكدت تصدّره لها أو تراجعه أمام أحد الأحزاب المنافسة له المدعومة من الدولة، فلن يغير هذا الأمر أي شيء من قواعد اللعبة السياسية، أو من موازين القوى ما بعد هذه الاستحقاقات. وأبعد من ذلك لن يطرأ أي تغيير ملموس على حياة فئاتٍ واسعة من المغاربة فقدت ثقتها في تحسين ظروف معيشتها، في ظل المنظومة نفسها التي تحكم من خارج المؤسسات المنتخبة، وبعيدا عن كل محاسبة أو مساءلة. ففي انتخابات 2016 التي كان فيها التصويت سياسيا بالدرجة الأولى، أملته حالة الاستقطاب السياسي الحادّ ما بين الحزب الإسلامي الذي رفع زعيمه السابق، عبد الإله بنكيران، شعار محاربة التحكّم في الحياة السياسية، والاتجاه الأمني النافذ داخل الدولة الذي يسعى إلى إبعاد الإسلاميين عن رئاسة الحكومة، أصيب الذين مَنحوا أصواتهم العقابية ضد خيار الدولة للحزب الإسلامي، آنذاك، بخيبة أمل كبيرة بعد المناورات السياسية التي قامت بها السلطات لإفراغ فوز الإسلاميين من كل محتوى، وإعادة فرض الواقع الذي تتحكّم في إدارة دواليبه من خلف الستار الأذرع نفسها القوية للدولة العميقة التي لا تُنتخب ولا تُحاسب.
تجري الانتخابات بمشاركة نحو 32 حزباً إلّا أنّها لا تعكس وجود تعدّدية سياسية حقيقية
حالة العزوف أو المشاركة في الانتخابات التي تُعتمد مقياسا لمصداقية العملية الانتخابية وما يتمخض عنها من مؤسسات منتخبة لم تعد تشكّل رهانا سياسيا كبيرا عند كل استحقاق مغربي، بما أن الأرقام المعلن عنها، وإن لم يتم التشكيك في مصداقيتها، لا تعكس الواقع، بما أن قرابة ثلث المؤهلين للمشاركة (25 مليوناً) في الانتخابات الحالية غير مسجّلين أصلا في لوائح التصويت التي تضم 18 مليون مسجل فقط، وأكثر من نصف هؤلاء لا يصوّتون، وفئاتٌ كبيرة ممن يصوّتون أميون، تجري استمالتهم إلى مراكز الاقتراع بالإغراءات المادية التي يقدّمها لهم المرشحون أو بتحفيز أو تخويف من أجهزة الدولة التي يكون هاجسها هو الرفع من نسب المشاركة.
وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تجري بمشاركة نحو 32 حزبا سياسيا، فهي في واقع الأمر لا تعكس وجود تعدّدية سياسية حقيقية، فأغلب الأحزاب، بما فيها التي توصف بالـ"كبرى"، لم تطرح أي بديل، في برامجها الانتخابية المتشابهة، يعد بوضع حد لحالة الهيمنة والتحكّم التي يفرضها ثنائي السلطة والمال على الحياة السياسية في المغرب. وبالتالي، لن تزيد الاستحقاقات الحالية سوى تأكيد هيمنة نظام الحكم الذي يقمع مطالب الانتقال نحو الديمقراطية الحقيقية في المغرب، ويكرّس صورة الديمقراطية الشكلية الموجهة للاستهلاك الخارجي.