انتخابات بلا روح وبدون أفق

08 أكتوبر 2022
+ الخط -

أعلن 15 حزبا في تونس، حتى كتابة هذه السطور، عن مقاطعة الانتخابات التي دعا إليها الرئيس قيس سعيّد، وتنظم يوم 17 الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول). لم يبق مصرّا على المشاركة فيها سوى من يسعى إلى الاستفادة من إقصاء الأحزاب الوازنة ليحتل المقاعد، ظنّا منه أن ذلك سيجعله شريكا في السلطة والتحكّم في البلاد، رغم أن صاحب الأمر والنهي لم يخفِ حرصَه على دفن الأحزاب، كل الأحزاب، مهما كان لونها وموقفها من مسار 25 جويلية (يوليو 2021). سباق في ملعب فارغ وسباحة في بركة بدون ماء. وُضعت قواعد اللعبة من دون حضور اللاعبين، وبدت الحياة السياسية بدون طعم ولا روح.

رغم توالي الاعتراضات، حتى من أنصار الرئيس الذين نصحوه بالتخلّي عن بعض الإجراءات المعقّدة، وأحيانا المستحيلة، عند تنزيلها على أرض الواقع، أصرّ على الإبقاء عليها، تاركا المشاركين المفترضين في حيرةٍ من أمرهم، رغم أن هؤلاء قلة، وهم من مؤيديه في الضرّاء والسرّاء. من هذه الشروط التعجيزية حصول كل مرشّح على تزكية لشخصه من 400 من بين القاطنين معه في المعتمدية التي يقيم فيها، وهذه تقتضي انتقالهم جميعا إلى مقر البلدية للتعريف بالإمضاء. وهو جهدٌ لا يقوم به في هذه الظروف سوى من له قرابة بهذا المرشّح، أو له مصلحة مع ذلك. لهذا، سبق أن حذّر كثيرون رئيس الدولة من تبعات التنصيص على هذا الشرط بالذات لأن مآلاته خطيرة، إذ يفتح الباب أمام المهرّبين وأصحاب المال القادرين على شراء الذمم من أجل الحصول على مقعد في البرلمان الجديد. ولكن الرئيس رفض الاستماع لهذه النصيحة، فتوالت الأحداث لتؤكّد صحة تلك التوقعات، حيث ألقي القبض على عدد ممن جمعوا التوقيعات المطلوبة مقابل أموال دفعوها أو وعود تلقوها من هذا المرشّح أو ذاك مقابل الحصول على بعض الخدمات، فقد ظهر فساد العملية الانتخابية قبل تنظيمها بشهرين.

لا تُعرف نسبة المواطنين الذين سيتوجهون يوم الاقتراع إلى الصناديق، وهم يعتقدون أنها ستمثل المخرج من الضيق الذي يعيشون فيه، لكن المؤكّد أن حجم الإقبال لن يكون عاليا كما يتوقع أصحاب السلطة وأنصارها، خصوصا وأن مظاهر العزوف تعدّدت، بعد أن أصبح الشعب واقفا على صفيح ساخن جدا بسبب الارتفاع المتزايد للأسعار، فنسبة التضخّم ستتجاوز العشرة بالمائة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، ما يعني أن الأسواق ستتعرّض إلى نوبات جنونية تتجاوز بكثير قدرة التونسيين على التحمّل، فزيادة الأجور التي جرى التوصل إليها، أخيرا، مع النقابات سيبتلعها الغلاء في ظرفٍ وجيز، وستتحوّل إلى مجرّد قطرة ماء في محيط هادر. عندها لن يصل صوت المسؤولين إلى المواطنين وهم سيحاولون عبثا طمأنتهم بأن المستقبل بعد ثلاث سنوات سيكون أفضل، وستخرج البلاد من عنق الزجاجة بعد تنفيذ الإصلاحات الضرورية للاقتصاد. وعود سمعوها من قبل توزّع على قوم يغرقون شيئا فشيئا في الوحل.

الرئيس في مأزق، والبلاد في ورطة. ومع ذلك هناك إصرار على تنظيم انتخاباتٍ لن تترتب عنها جدوى سياسية أو اقتصادية. هي انتخاباتٌ فاقدة للمعنى. أفراد سيظهرون خلال الأسابيع القليلة المقبلة، معظمهم بدون ملامح، لا تاريخ ولا ثقافة سياسية. منهم من تقف وراءهم أحزابٌ أصبحت بدون بوصلة، فسلكت طريقا مسدودا وبدون أفق. ومنهم من ستأتي به المصادفة لاعتباراتٍ شخصية ومحلية، وكثيرون منهم سيستثمر في الرصيدين، القبلي والعائلي، اللذين لا يزالان عميقيْن رغم نشأة الدولة الوطنية.

ستكون الكلمة للمحلي على حساب الوطني. ليس في هذا عيب، لأن أبناء المحليات همّشوا لفترات طالت، حتى فقد كثيرون منهم الإحساس بالانتماء للدولة الواحدة، لكن الانتقال من الوطني إلى المحلّي بهذه الطريقة العشوائية، بحجّة أن إعادة بناء الكل انطلاقا من الأجزاء ستترتب عنه مخاطر جسيمة، فالخياط يقوم بتفصيل القماش على كل الجسم، قبل أن يتوجّه إلى التفاصيل التي تعدّ عملية مهمةً جدا.

هناك مسعى نحو قتل السياسة من خلال الإيهام بوجود تصوّر بديل لسياسةٍ بديلة، يصنعها فرد صاحب رسالة على حساب النخبة والمجتمع.