"اليوم التالي" الأميركي

03 فبراير 2024
+ الخط -

لا يلغي الحديث عن "اليوم التالي" في قطاع غزّة "يوماً تالياً" أميركياً في الشرق الأوسط، ذلك أنه وفقاً لقرار الرئيس جو بايدن الردّ على الهجوم الذي استهدف "البرج 22" الأميركي في الأردن، في 28 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، فإن الأميركيين سيشنّون حملة تستمرّ أياماً في العراق وسورية ضد المليشيات الموالية لإيران. لا تريد الولايات المتحدة الردّ كأداة ثأرية لمقتل ثلاثة جنود وجرح عشرات آخرين، بل أيضاً لأسبابٍ متصلة بوقائع أكبر من الشرق الأوسط بحد ذاته.

يسعى الأميركيون من خلال الضربات إلى إظهار أن القرار في الشرق الأوسط لم يخرُج من أيديهم، وأن دخولهم عمق المنطقة، على خلفية الغزو العراقي للكويت في عام 1990، وما تلاه من مآسٍ، لن يتخلوا عنه بسهولة، في ظل تمدّد صيني اقتصادي من جهة، وثبات روسي من جهة أخرى، على وقع تنامي النفوذ الإيراني في دول عديدة من المنطقة. يعلم الأميركيون أن الشرق الأوسط يبقى القلب الاستراتيجي بين شرقٍ بائع وغربٍ مشترٍ، وسيؤدي تجاهل القلب حكماً إلى تراجع النفوذ الأميركي. وفي الوقت نفسه، بدأت الاستراتيجيات الأميركية بالتحوّل، بدءاً من الإقرار بقيام دولة فلسطينية، رغم أنه لا يزال من غير المعلوم ماهية الطرح الأميركي حول ذلك، وصولاً إلى الاعتراف بأن الأولوية الصينية لدى إدارة بايدن متصلة بالأولوية الشرق أوسطية.

يدرك الأميركيون أن نموذجي فيتنام 1973 وأفغانستان 2021 مختلفان عن الشرق الأوسط. ليست الطبيعة الجيوبوليتيكة لهانوي وكابول أكثر تأثيراً من طبيعة الشرق الأوسط، المُحاط بالمضائق وبخطوط الملاحة البحرية، ولاحقاً البرّية، وبحقول النفط. وفي ظل الحاجة إلى تكريس النفوذ، أو بالأحرى التأكيد على الدور الأول بين القوى العظمى في الشرق الأوسط، فإن الأميركيين باستخدامهم القوة، يعيدون، وفقاً لهم، إمالة الميزان لصالحهم.

في الوقت نفسه، قرّر خصوم أميركا في الشرق الأوسط التراجع خطواتٍ إلى الوراء، سواء عبر تعليق "كتائب حزب الله" عملهم العسكري، و"تقبّلهم" فرضية ضربهم من الأميركيين من دون ردّ، بسبب كونهم المُتهمين أميركياً باستهداف القاعدة في الأردن، أو عبر تقليص "الحرس الثوري" الإيراني وجوده في سورية. تتبادل الرسائل بكثافة في ليالي الشرق الأوسط. وقد دخل التأخر الأميركي في الرد العسكري في سياق التفاوض المعلن وغير المعلن، ما يتيح الفرصة لمن لم يتراجع بالتراجع.

في المقابل، بات الأميركيون يعلمون أنه لا يمكن التصرّف مع الشرق الأوسط كما كان في العقود الماضية. هناك شعب فلسطيني يستحقّ دولة قبل كل شيء، وبعد ذلك يمكن البحث في أي ترتيبات في المنطقة. وهو في الواقع ما سيكون "اليوم التالي" الأميركي في هذه النقطة من العالم. وفي الوقت نفسه، يفسح العام الانتخابي في واشنطن المجال أمام حراكٍ سريع لبايدن. لا يريد تلقي خسارة مدوية أمام منافسه المحتمل، الرئيس السابق دونالد ترامب، ولذلك يحاول إعادة نسج العلاقات مع الأجنحة التقدّمية في الحزب الديمقراطي، ومع العرب والمسلمين، الذين يشكّلون صوتاً مؤثراً في ولاياتٍ متأرجحة، مثل ميتشيغن.

لن يكون "اليوم التالي" للولايات المتحدة في منطقتنا مجرّد تكرارٍ لممارسات سابقة. والنظام الأميركي، المعروف عنه التكيّف مع التطورات، لا الجماد، سيتآلف مع المرحلة الجديدة. لم يعد الجمود في ملف مثل الدعم الأبدي لإسرائيل، بجرائمها وانتهاكاتها، منسياً في الشرق الأوسط. أضحت مدن أميركية عديدة في صلب الأحداث، وباتت قراراتها نافذة في صياغة القرار الأميركي. يكفي أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن انتقل من "أنا هنا... بصفتي يهودياً"، إلى الطلب من مسؤولين في وزارته "تقديم خياراتٍ سياسيةٍ بشأن الاعتراف الأميركي بدولة فلسطينية".

سيكون "اليوم التالي" الأميركي مختلفاً في الشرق الأوسط عن المراحل السالفة، ومن خلاله ستخرُج أميركا أخرى في التعاطي مع الإقليم. من يدري، لعلّه سيكون "يوماً تالياً" أيضاً لكل خصوم أميركا وحلفائها وأعدائها.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".