اليمين الأوروبي المُتطرّف والانتخابات البرلمانية
الانتخابات البرلمانية الأوروبية المُقرّرة في السادس من الشهر المُقبل (يونيو/ حزيران)، هي المقياس الفعلي لمدى قوّة اليمين الأوروبي المُتطرّف، الذي يتقدّم خطوات سريعة نحو حكم القارة. وهو يتولّى السلطة كاملة في المجر وإيطاليا وبولندا، ويشارك بنسبة منها في فنلندا والسويد وسويسرا. ويواصل الهجوم لاحتلال الصدارة في كلّ من فرنسا وألمانيا، اللتين تمثّلان رأسي قاطرة الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا، تبدو الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة في هذين البلدين مهمةً جدّاً، ويمكن لها أن تشكل انعطافةً تاريخية، ومحطّةّ تحوّل تنقل هذه المنطقة نحو مرحلة مختلفة، جذرياً، عن تلك التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تكلّلت بالقضاء على النازية، بعد حرب دامت أكثر من خمسة أعوام، وخلّفت دماراً واسعاً، وكان من نتائجها قيام الحرب الباردة، وتقسيم أوروبا بين معسكريْن، غربي، يدور في الفلك الأميركي، وشرقي، متحالف مع الاتحاد السوفييتي. ولكنّ ذلك لم يمنع أوروبا الغربية من أن تنعم بفترة مديدة من الهدوء، الذي أصبح مُهدّداً بسبب تقدّم اليمين المُتطرّف، الكفيل بتوليد توتّرات على مستويات كثيرة، سياسية، اجتماعية، واقتصادية، ومن شأنه أن يخلط الأوراق، ويزعزع الاستقرار في أكثر من بلد، وذلك بسبب ملفّات الهجرة، والإسلاموفوبيا، والعنصرية، التي تُشكّل أضلاع مثلث برنامج اليمين المُتطرّف الانتخابي.
ويعد صعود اليمين المُتطرّف نتيجة الفشل الذي واجهته أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة في بناء نموذجها الاقتصادي والسياسي المُستقلّ، وشكّلت الوحدة الأوروبية خطوة مثالية في هذا الطريق، لكنّها لم تتمكّن من تحقيق ولو جزء يسير من الأهداف التي قامت من أجلها، وباستثناء الوحدة النقدية، وتعميم العملة الموحّدة، لا تزال دول أوروبية تعمل وفق أنظمة حكم وإدارة محلّية، ولم تنصهر ضمن آليات انتقال القارّة إلى الدولة الواحدة. وبدلاً من أن يتقدّم الاتحاد بخطوات كبيرة نحو الأمام، فهو يتراجع، فليس هناك سياسة أوروبية موحّدة تجاه القضايا الأوروبية والدولية، ومثال ذلك الموقف من حربيْ غزّة وأوكرانيا، وحيال الأخيرة، برزت على مدى عاميْن مستوياتٌ مختلفة من المواقف، يكاد بعضها يقترب من روسيا، كما هو حال المجر، كما أنّ فشل أوروبا في وضع سياسات ناجعة للهجرة، أدّى إلى عودة فرض الحدود بين بلدان القارة. وهناك أمثلة على عدم استقلالية أوروبا، وتدخّل الولايات المتّحدة في شؤونها، وكانت إحدى النتائج البارزة لذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
ليست لدى اليمين المُتطرّف برامج حكم، ولا حلول للأزمات الكبرى التي تعاني منها أوروبا، لأنّها ليست مرتبطة في الأصل ببرنامج أو بهوية الحاكم، سواء كان من اليسار أو اليمين أو الوسط، بل تتعلّق بتراكم سلسلة من الأخطاء والمصاعب تواجهها أغلبية بلدان القارّة، ولا تستطيع تجاوزها. وهناك مثال حيّ يتعلّق ببريطانيا، التي قادها اليمين، بجناحيه التقليدي والمُتطرّف، إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحين وصل هذا التيار إلى هدفه، لم يُقدّم البديل المحلّي عن الخيار الأوروبي، وتبيّن بعد عدّة سنوات أنّه بلا رؤية للمستقبل، وسقطت كلّ الأطروحات التي وصل على أساسها، ولم يحقّق لبريطانيا وضعاً اقتصادياً أفضلَ كما كان يَعِد، بل على العكس، فإنّه كبّدها خسائرَ كبيرةٍ، وتركها تعاني، ولا تجد طريقاً للخروج من هذا المأزق الذي أوصلها إليه، وفي المدى المنظور، ليس هناك مُؤشّرات إلى أنّ أحزاب اليمين المُتطرّف في فرنسا وألمانيا ستكون مُختلفةً عن نظيرتها في بريطانيا وإيطاليا، ولا تتجاوز برامجها الانتخابية جملة من الأطروحات العنصرية ضدّ الأجانب والوحدة الأوروبية، وهذا وحده لا يكفي لبناء مستقبل جديد، بل نقل الأزمات إلى مستوى أكثر تعقيداً، ونقل الوضع العام إلى حالة من التردّي بلا حدود.