اليمن: جبهات المحارق على الحدود
في مؤشّرٍ على إعادة دفّة الصراع إلى المربعات الأولى للحرب، امتدّت خطوط القتال، أخيرا، إلى جبهات الحدود اليمنية - السعودية، مع تصاعد حدّة المعارك في معظم الجبهات اليمنية. وإذا كانت الحرب في جبهات الحدود ظلت خاضعةً للمعادلة السعودية في المقام الأول، بما في ذلك تقديراتها السياسية والعسكرية، وإنْ ظلت جبهات نشطة طوال سنوات الحرب، فإن دفع المعارك في معظم الجبهات إلى جانب جبهات الحدود يشكّل تحوّلاً استراتيجياً في إدارة الحرب، وذلك بربط أهدافها ونتائجها، بما في ذلك زجّ قوى مقاتلة في المشهد العسكري. وفي حين من المبكر الجزم بمسارات معارك جبهات الحدود، وتأثيرها على موازين القوى في الجبهات الأخرى، فإن أطراف الصراع تراهن على إنهاك خصومها، أو على الأقل شل جزء من قدرتها العسكرية.
بوصفها دولة مُتدخلة في حربٍ تقع على حدودها الجنوبية، ظل هاجس تأمين أكبر قدر من حدودها البرّية هدفاً للسعودية وأولوية حدّدا خياراتها العسكرية في اليمن، ونتج عن هذه الاستراتيجية فصل جبهات الحرب الداخلية عن جبهات الحدود وتركيز السعودية على تأمينها بوسائل مختلفة، بيد أن طول الحدود واختلاف سلطة الأمر الواقع الخاضعة لها، وتنوّع القوى الاجتماعية المحلية الفاعلة في كل منطقة حدودية وتعدّد ولاءاتها السياسية، وكذلك تباين مخاطرها على الجبهة السعودية، دفع المملكة إلى تبنّي استراتيجيات مختلفة من منطقة إلى أخرى، ففي حين ظلت مخاطر المناطق الحدودية التابعة لسلطة وكيلها أقلّ بالنسبة لها، وإنْ خضعت لتحولات المعارك مع مقاتلي جماعة الحوثي، فإن صعوبة تأمين جبهة صعدة وحرض، التابعة لسلطة جماعة الحوثي، مثّل مشكلة للسعودية. ولذلك بدا أن الخيار العسكري هو الوحيد لضمان خفض المخاطر، بحيث اعتمدت على القوات السودانية التي تخوض معارك ضد مقاتلي الجماعة، وكذلك الألوية العسكرية اليمنية، ومقاتلين مدنيين يجنّدهم مقاولون محليون للدفاع عن حدودها، إضافة إلى تمشيط هذه المناطق وتحويلها إلى أرض محروقة غير صالحة للحياة عبر استهدافها بالغارات الجوية اليومية، فضلاً عن استقطاب زعماء القبائل في هذه المناطق وشراء ولاءاتهم أو تحييدهم في الصراع. ومع استمرار الخيار العسكري لتأمين حدودها، لجأت السعودية، في مرحلة مبكرة، إلى انتزاع تفاهماتٍ سياسيةٍ مع جماعة الحوثي أسفرت عن اتفاقية "ظهران الجنوب" عام 2016، بيد أن الاتفاقية ظلت حبراً على ورق، حيث استمرّت هجمات الجماعة على طول الحدود، ومن ثم تضافرت عوامل عدة لتغيير الاستراتيجية السعودية، فإلى جانب تحوّلات مسارات الصراع المحلي لصالح جماعة الحوثي في السنوات السابقة وتهديدها مأرب، واستمرار هجماتها البرية والعابرة للحدود، فإن ضعف القوى التي تعتمد عليها السعودية لحماية حدودها، وكذلك حالة الفساد التي ارتبطت بإدارة الملف العسكري الحدودي، سواءً من الجانب السعودي أو في الجانب اليمني، دفع السعودية إلى توحيد استراتيجيتها بربط جبهات الحدود بجبهات الصراع الأخرى، بما في ذلك تغيير الأدوات المحلية المقاتلة في هذه المناطق.
بعد ثلاثة أعوم من التمدّد وتحقيق انتصارات عسكرية على خصومهم، يخوض مقاتلو جماعة الحوثي معارك في جبهات متعدّدة
على قاعدة أن أفضل وسيلةٍ لتطويق الخصم استنزافه في جبهات متعدّدة، بما في ذلك نقل المعارك إلى عقر داره، بدت السعودية في توجيه استراتيجيتها نحو هذه الغاية، وذلك بعد فشل تحييد القدرة العسكرية لجماعة الحوثي، وتزايد هجماتها البرّية والصاروخية على أراضيها، بما في ذلك هجماتها على منشآت إماراتية أخيرا، ومن ثم صعّدت السعودية المعارك في معظم جبهات القتال ضد جماعة الحوثي، إلى جانب جبهات الحدود، مقابل نقل المعارك إلى جبهة صعدة، معقل جماعة الحوثي، وذلك لتشتيت مقاتليها في الدفاع عن صعدة، إضافة إلى خوض القوات الموالية لها لمعارك في جبهة حرض التابعة لمدينة حجّة والخاضعة لسيطرة الجماعة، بهدف قطع الإمدادات عن مقاتليها من أرياف مدينة حجّة القريبة من جهة. ومن جهة أخرى، عزلها في مدينة الحديدة، بينما تطوّقها قوات العميد طارق محمد عبدالله صالح في جبهات تعز الغربية، ومن ثم تدفع هذه المحاور العسكرية متزامنةً إلى تشتيت القدرة العسكرية لجماعة الحوثي، وأيضاً تخفيف ضغط مقاتليها على جبهات مدينة مأرب، معقل السلطة الشرعية. ولتحقيق هذه الغاية، عمدت السعودية إلى توظيف قوى محليةٍ أكثر فاعلية، إذ رجّحت معارك تحرير مدينة شبوة التي خاضتها ألوية العمالقة قوة الجماعة السلفية، بحيث تحوّل المقاتلون السلفيون بشكل عام إلى خيار رئيس للسعودية في هذه المرحلة، وذلك بعد فشل الخيارات المحلية الأخرى، إذ أسّست السعودية ألوية "اليمن السعيد" في مطلع العام الحالي، وهم مقاتلون سلفيون ينحدرون من شمال اليمن، ودفعت بجزء من ألويتها في جبهات مأرب ضد مقاتلي الجماعة، بينما تخوض ألويةُ أخرى القتال في جبهات الحدود. وفي حين أفضى اشتباك ألوية اليمن السعيد السلفية مع مقاتلي الجماعة في جبهة حرض إلى تحقيق تقدّم عسكري في بعض المواقع، إلى جانب خوض مقاتليها معارك في جبهة صعدة، وكذلك استنزاف مقاتلي الجماعة في جبهات مأرب، حيث تشتعل المعارك في جبهاتها الجنوبية، فالأكيد مراهنة السعودية على أن تؤدّي هذه المعارك إلى تغيير خريطة الصراع لصالح وكلائها، كون الأولوية تأمين حدودها. ومع تغييرها طريقة إدارتها جبهات الحدود، ما زالت السعودية تعتمد على قوات يمنية، وهي أقل كلفةً من انخراط مقاتليها في معارك ضد الجماعة، ويحفظ ماء وجهها من خوض حرب برّية ليست مؤهلة لها.
ما دام اليمني هو المحارب، وهو القتيل أيضاً، فلا تكلفة من دفع الحرب سنوات إلى الأمام
بمعزل عن حربها في الجبهات الداخلية، عدا مدينة مأرب، احتلت جبهات الحدود أهمية استراتيجية بالنسبة لجماعة الحوثي على الصعيدين، السياسي والعسكري. وإذا كان جهازها الإعلامي قد برّر مشروعية حربها ضد السلطة الشرعية كونها حليفة للسعودية التي تخوض حرباً في اليمن، فإن خوض الجماعة معارك الحدود منحها زخماً سياسياً، خصوصا أمام أنصارها، باعتبارها قوة محلية تضطلع بمهمة التصدّي للسعودية، كما مكّنها ذلك من استقطاب مقاتلين عقائديين يحاربون عند الحدود دفاعاً عن الأرض اليمنية، إلى جانب تحوّل مناطق الحدود الممتدة من مدينة حرض وحتى صعدة إلى مخزن بشري دائم لتجنيد مقاتلين فقراء دمر الطيران منازلهم، وقضى على مصدر رزقهم؛ كما منحتها حرب الحدود الذريعة المناسبة لاستمرار استنزاف أموال المواطنين والتجار في المناطق الخاضعة لها بفرض المجهود الحربي لدعم المقاتلين. وفي حين تباينت إدارة جماعة الحوثي جبهات الحدود، حيث ركّزت مقاتليها على حماية جبهة صعدة كونها معقلها، ومحاولة تأمينها من أي اختراق من خصومها، فإن تثبيت سيطرتها على جبهة حرض مكّنها في سنوات سابقة من تأمين حجّة ومدينة الحديدة. ومع أن الجماعة لم تفصل عسكرياً بين إدارة حربها في الجبهات الداخلية وجبهات الحدود، فإنها ظلت تدير معركتها ضد السعودية في مسارين: الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة التي تطلقها بين يوم وآخر، وشنّ هجمات برّية في الحدود السعودية، إلا أنها معارك بلا نتيجة عسكرية دائمة. ولذلك بدا أن الهجمات الصاروخية العابرة للحدود هي الخيار الأمثل بالنسبة للجماعة، وذلك لأن لا تكلفة بشرية تترتّب على عملياتها، فيما مردودها السياسي أعلى. ومن ثم ظلت جبهات الحدود جبهةً سياسيةً أكثر منها عسكرية بالنسبة للجماعة، إلا أن انخفاض حدّة المعارك في هذه الجبهات في السنوات السابقة مكّنها من تركيز هدفها العسكري نحو شن حروب التوسّع، بما في ذلك ضخّ مقاتليها إلى جبهات مأرب، ومن ثم فإن تغيير هذه المعادلة ليس في صالحها.
الهجمات الصاروخية العابرة للحدود هي الخيار الأمثل بالنسبة لجماعة الحوثي، وذلك لأن لا تكلفة بشرية تترتّب على عملياتها، فيما مردودها السياسي أعلى
في المعادلة العسكرية، الطرف الذي ينتقل من الهجوم إلى الدفاع يفقد مكاسبه، خصوصا مع خوضه معارك في جبهات مختلفة وفي وقتٍ واحد. وهذا ما يبدو عليه واقع جماعة الحوثي اليوم، فبعد ثلاثة أعوم من التمدّد وتحقيق انتصارات عسكرية على خصومها، يخوض مقاتلوها معارك في جبهات متعدّدة، إذا كان طرد مقاتليها من جبهات شبوة جرى في مناطق خارج حاضنتها الاجتماعية، فإن نقل المعارك إلى معقلها في صعدة يمثل تهديداً عسكرياً وسياسياً لها، كما أن تصعيد المعارك في حرض، وتغيير المعادلة العسكرية على الأرض، قد يعيقان خطوط إمدادها من حجّة إلى مدينة الحديدة، فضلاً عن تكبيدها خسائر في جبهات مأرب الجنوبية، على الرغم من استمرار الجماعة في حشد مقاتلين. في المقابل، حققت معارك جبهات الحدود في حرض وصعدة مكسبا للسعودية وحلفائها، حيث سيطرت ألوية اليمن السعيد السلفية والمدعومة من السعودية على أحياء داخلية في حرض، وإنْ من الصعب الحفاظ على هذه المكاسب، وذلك لطبيعتها الجغرافية المفتوحة، وكذلك سيطرة جماعة الحوثي على معظم مديريات حجّة، ما يجعل مقاتليها يخوضون معارك دائمة لاستعادة تلك المناطق، إلى جانب، تقدّم القوات الحكومية وألوية اليمن السعيد السلفية في جبهة صعدة. وفيما تستمر المعارك في معظم الجبهات اليمنية، تبدو السعودية الرابح حتى الآن، فإلى جانب إعاقة الجماعة من خوض حروب توسّع، حظيت بقوة مقاتلة عقائدية للدفاع عن أراضيها، قوة تتبعها من حيث القيادة والولاء، وما دام اليمني هو المحارب، وهو القتيل أيضاً، فلا تكلفة من دفع الحرب سنوات إلى الأمام.