اليمنيون في مواجهة الجوع
تتضاعف أمام المواطنين التحدّيات اليومية للأزمات الاقتصادية التي تتجاوز أبعادها الشروط المحلية للحرب إلى تداعيات عالمية مستمرّة. وقد تتضاءل خيارات الحياة أمامهم، فعلى مستويات عديدة، أوجدت الحرب الروسية - الأوكرانية تداعيات اقتصادية تتفاعل مع تطورات الحرب الجارية في أوروبا، وتوسّع دائرة العقوبات المتبادلة بين المعسكرين، فمن جهة، أدّى استمرار تذبذب أسعار الطاقة عالمياً إلى ارتفاع أسعارها، بما في ذلك تأثر إنتاجية المصانع والشركات المختلفة، كما أن الصراع الدولي المتبادل قلّص من حجم التبادل التجاري بين الدول، ومن ثم حدّ من تدفق المواد الغذائية، وبالتالي ارتفاع أسعارها، فضلاً عن التضخم الاقتصادي الذي بات تحدّيا يواجه معظم الدول. ومن جهة أخرى، فرضت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أزمة غذاء، فحرب الدولتين، المصدّرتين للقمح، قلصت إمداداته في الأسواق، كما أن السياسات الوقائية التي اتبعتها الدول الأخرى المصدّرة للقمح فاقمت الأزمة على الصعيد العالمي، بحيث أدّت إلى ارتفاع أسعاره. وبالتالي، أصبح نقص القمح مشكلةً تهدّد حياة الملايين. وفي أزمة اقتصادية مركّبة تتمدّد تبعاتها يومياً، تتكشّف مستويات أكثر خطورةً في بلدان الحروب، كاليمن، حيث تفرض كلفة الحرب آثارها على حياة اليمنيين، فيما تفاقم سلطات الحرب من معاناتهم. ولذلك، نقص إمدادات القمح في اليمن يعني دفع الأزمة الإنسانية الخانقة إلى حدود المجاعة.
بحسب أحد تقارير منظمة أوكسفام البريطانية، ارتفع سعر الخبز في اليمن، منذ بداية الأزمة الأوكرانية، بنسبة 35%
تتبدّى أسباب المجاعة في اليمن وشروطها ليس فقط في نقص الموارد، وإنما في كيفية إدارة سلطات الحرب هذه الموارد، والسياسات التراكمية التي اعتمدتها لإفقار اليمنيين، ففي مقابل حصر موارد الدول لتمويل نفقات أجهزتها السياسية والعسكرية، زجّت سلطات الحرب الاقتصاد اليمني في صراعها اليائس على السلطة، بحث فَرض انقسام المؤسسات الاقتصادية على حياة اليمنيين، كآلية موجّهة تعمل على امتصاص مواردهم، إلى جانب التربّح من حالة الحرب، من السلطات وشبكة المتربّحين، بحيث امتدّت الأزمة لجميع مناحي الحياة، من تضاعف أسعار المواد الغذائية إلى رفع أسعار المشتقات النفطية والتلاعب بأسعار العملة المحلية مقابل الدولار، بحيث جرت تنمية أدوات متعدّدة لإفقار اليمنيين وتحويلهم إلى جيوش مفقرة، تعتمد على المساعدات الإغاثية والمعونات الإنسانية. ومع أن اليمنيين ظلوا يديرون حياتهم وفق الحد الأدنى طوال سنوات الحرب، فإن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية قلصت الهامش الإنساني الضيق الذي يتحرّكون فيه، والتي امتدّت إلى القمح، الغذاء الرئيسي لمعظم اليمنيين. ومع هذه الأزمة التي توطّنت في اليمن عقودا طويلة نتيجة سياسة السلطات المتعاقبة، فاقم المشكلة غياب سلطة مركزية تتبنّى خطة مستدامة لرفع مستوى زراعة القمح محلياً وتغطية حاجة اليمنيين، مقابل اعتماد سلطات الحرب على مورّدين محليين موالين لها يحتكرون استيراده، إلا أن حضور الهند لتصدير القمح لسد حاجة مواطنيها أخيرا صعّد من تحدّيات تفاقم أزمة الغداء في اليمن، ونقص إمدادات القمح، فبحسب أحد تقارير منظمة أوكسفام البريطانية، ارتفع سعر الخبز في اليمن، منذ بداية الأزمة الأوكرانية، بنسبة 35%. يضاف إلى ذلك أن تقليص برامج الغذاء العالمي، والذي كان، على الرغم من اختلالات أدائه يموّل، إلى حد ما، النازحين بالسلال الغذائية، منها القمح، يضاعف من تدهور الوضع الإنساني في اليمن، خصوصا مع توجيه الدول الغنية أولوياتها إلى تفادي الأزمة الاقتصادية المترتبة على الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو ما يجعل الحالة الإنسانية في اليمن مرشّحةً أكثر للتدهور في قادم الأيام، بحيث بدت مؤشّراتها في تفشّي سوء التغذية في مناطق يمنية عديدة، من منطقة حيس في مدينة الحديدة إلى مدينة حجة وحتى أرياف صنعاء.
أداء الحكومة المعترف بها، سلطة تنفيذية، ظلّ قاصراً، بحيث عجزت عن تطبيع الحد الأدنى من مظاهر الحياة اليومية
تقتضي إدارة الأزمات الاقتصادية قيام السلطة بمهامها الوظيفية من خلال تسخير كل موارد الدولة للحدّ من تبعاتها على حياة المواطنين، وقبلها تبنّي سياسات اقتصادية لمعالجة الأزمة، بيد أن سلطات الحرب في اليمن نموذج استثنائي في تكريس أدوات القهر، إذ إن فلسفتها المتجذّرة، بوصفها قوى طفيلية تقوم على صنع الأزمات والاستفادة منها، تتشابه في ذلك، سلطة متغلبة قوّضت الدولة وكرّستها سلطة منحتها دول الإقليم المشروعية لتوحيد وكلائها. وإذ كان تسويق المجلس الرئاسي، بوصفه سلطة صُنعت في الرياض، جاء في سياق تمكينها لإدارة المناطق التابعة لها، ومن ثم وقف تدهور الأوضاع الاقتصادية، فإن أداء الحكومة المعترف بها، سلطة تنفيذية، ظلّ قاصراً، بحيث عجزت عن تطبيع الحد الأدنى من مظاهر الحياة اليومية، فعلى الرغم من انخفاض سعر الدولار قياسا بالعام الماضي، فإن أسعار السلع الأساسية استمرّت في الارتفاع في المناطق التابعة لها، حيث تشهد المناطق المحرّرة موجة غلاء نتيجة غياب آلية للحكومة لمراقبة الأسعار. وفي الجانب الخدمي، عجزت الحكومة عن حل مشكلة استمرار انقطاع الكهرباء، كما أن عدم امتلاك الحكومة القرار الاقتصادي في إدارة الموارد، بما في ذلك فشلها في استئناف تصدير النفط، مقابل اتّكالها على دعم حلفائها لتغطية نفقاتها في المقام الأول. ومع إعلان السعودية والإمارات في الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) التزامهما بدعم الاقتصاد اليمني، فإن عدم إيفائهما بتعهداتهما يمثل انكشافا آخر للحكومة، حيث اكتفت السعودية بتمديد الوديعة السابقة، وتحويل الجزء المتبقي إلى البنك المركزي في مدينة عدن. وفيما فرضت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الحكومات مواجهة الأزمة، ظلت الحكومة المعترف بها تديرها من خلال تسوّل الداعمين من دون تبنّي أي سياسة لتفادي الأزمة أو على الأقل التخفيف من تداعياتها، وذلك بتمكين المزارعين من زراعة القمح، مقابل تولي التجار استيراده، ومن ثم القيام بمهام الدولة. واقتصرت سياسة الحكومة على مناشدة الهند باستثناء اليمن من حظر استيراد القمح، إلا أن أزمة القمح المتنامية في العالم، بما في ذلك ارتفاع أسعاره، فاقمت تأثيراتها في اليمن، بحيث طالبت مجموعة هائل سعيد أنعم الصناعية، وهي أكبر مستوردي القمح في اليمن، بإيجاد حلولٍ عاجلةٍ لتفادي أزمة إنسانية في اليمن، مع احتمال نفاذ احتياطي القمح في غضون أشهر.
أزمة اقتصادية عالمية، إضافة إلى استمرار الحرب، هي نعمة لسلطة جماعة الحوثيين، حتى لو دفعت ملايين اليمنيين إلى المجاعة
سلطة الغلبة المليشياوية تتبنّى سياسة تخليق أزمات اقتصادية دورية تمدّها بموارد إضافية، وإخضاع المجتمعات بالقوة لوسائلها القهرية. ولذلك، أي أزمات اقتصادية عالمية هي وسيلة إضافية لتنمية موارد هذه السلطة، مقابل تحميل خصومها مسؤولية هذه الأزمات، ولذلك ظلت شمّاعة العدو والحصار على اليمن هي السياسة الاقتصادية لجماعة الحوثي لإدارة أزمات تنتجها، وتحميل المواطنين كلفتها. وإذا كان دخول أكثر من 11 سفينة محملة بالوقود إلى ميناء الحديدة ضمن إجراءات الهدنة الإنسانية هدفا لتخفيف أعباء أزمة المشتقات النفطية على المواطنين في مناطق الجماعة، فإنها لم تخفّض سعر البترول، بما في ذلك الغاز المنزلي، فضلا عن ارتفاع أسعار الكهرباء في المحطّات التجارية التي هي ضمن اقتصاد الحرب التي تديرها الجماعة. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من الاستقرار النسبي للعملة المحلية مقابل الدولار، فإن قيمتها الشرائية أدنى، مقابل استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وذلك نتيجة فرض الجماعة ضرائب متعدّدة إلى جانب الجبايات، فوفقا لأحد التقارير، بلغت نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الثلاثة أعوام الأخيرة إلى 556% في صنعاء فقط. وفي وقتٍ تتكشف تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية عن أزمة القمح في اليمن، فإن جماعة الحوثي كالعادة، وظفت ذلك لصالحها هي وطبقة المنتفعين، وذلك برفع أسعار الدقيق، إلى جانب استغلال أزمة الدجاج، فمع ارتفاع أسعاره عالميا، بما في ذلك العلف، فإن فرض الجماعة ضرائب جديدة على مزارع الدواجن، وصلت إلى مليون ريال، بما في ذلك ضغطها على المزارع، وذلك بإجبارها على إمداد مقاتليها في جبهات الحرب بالدجاج المحلي، ما فاقم حدود الأزمة، مقابل توجّه الجماعة، أخيرا، إلى استيراد الدجاج المثلّج لسد حاجة المواطنين، وذلك لتنمية مكاسبها. ومن ثمّ، فإن أزمة اقتصادية عالمية، إضافة إلى استمرار الحرب، هي نعمة لسلطة جماعة الحوثيين، حتى لو دفعت ملايين اليمنيين إلى المجاعة.