الولايات المتحدة المُرَوَّضَة إسرائيلياً
تكافح الولايات المتحدة حتى تبقى متربّعة على عرش القوة العالمية لا ينازعها عليه أحد. تسيّر الأساطيل إلى منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وتقيم التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية لاحتواء التنّين الصيني الصاعد الماضي في تصديع هيمنتها. تستنزف روسيا، اقتصادياً وعسكرياً، في أوكرانيا وتعمل على حصارها في مناطق نفوذه القديمة في شرق أوروبا ووسط آسيا وغربها. تمضي في حربها على "الإرهاب" وتنتهك سيادة الدول أنَّى أرادت. توظّف نفوذها الاقتصادي وفي المؤسسات الدولية لفرض عقوبات على من تشاء، وتخنق من تشاء من الدول التي تتجرأ على تحدّي إرادتها. تضرب عرض الحائط بـ"قرارات الشرعية الدولية" وهي تبطش بدول بذريعة مخالفتها "قرارات الشرعية الدولية".
هي بلطجة خبرها العالم وسئمها عقوداً طويلة، ومن ثمَّ يحاول كثيرون الإفلات من جبروتها، ويعملون على إضعاف القبضة الأميركية، تدريجياً، ولكن بثبات ونجاح تتراوح نسبه وسرعاته. صحيح أن الولايات المتحدة ضمن سيرورة فرض عظمتها ونفوذها الدوليين تستنزف الكثير من قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وكذلك الأخلاقية والمعنوية، إلا أن الجميع يدرك أنها تبقى مُهابة الجانب، مالكة أعتى أسباب القوة الغاشمة عالمياً. ومع ذلك، وفي أجواء الرعب والردع التي يفرضها الحضور الأميركي، يبدو أن ثمَّة دولة واحدة لا تخشى واشنطن، بل تعرف كيف تروّضها وتهينها، رغم أنها، وللمفارقة، دولة هامشية على المسرح الدولي، لا يمكن لها الاستمرار في الوجود من دون الدعم الأميركي المتواصل، عسكرياً واقتصادياً وديبلوماسياً. إنها إسرائيل.
لا تسعى هذه السطور إلى فهم كنه العلاقات الأميركية – الإسرائيلية وتعقيداتها، ولا إلى الخوض في محدّداتها وديناميكياتها، فهذه أمور لا يتسع لها مقال كهذا، كما أنه سبق للكاتب أن ألقى الضوء على هذه القضية المُلْتَبِسَةِ عبر مقالات عدة هنا.
داعي هذه السطور اختتام وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يوم أمس، جولته الخامسة في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل في منطقة غلاف قطاع غزّة (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، وما تبع ذلك من عدوان إسرائيلي وحشي على القطاع وسكّانه. جاء بلينكن إلى المنطقة في موازاة وعلى أعقاب مسؤولين آخرين في إدارة جو بايدن الباحثين عن هدنة إنسانية في قطاع غزّة تسمح بصفقة لتبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى أهله المنكوبين، وتحديد ملامح "اليوم التالي" في القطاع، ضمن مقاربة أوسع تتضمّن تطبيعاً عربياً – إسرائيلياً. بمعنى أن واشنطن تريد أن تجعل من حلٍّ مشوّه للقضية الفلسطينية، لا يضمن أدنى الحقوق الثابتة والتاريخية للشعب الفلسطيني، نتيجة مترتبة على تنازلات فلسطينية وعربية لإسرائيل، لا العكس، وهي بمثابة مكافأة لها على جرائمها ومقدّمة لدمجها في الإقليم لتكون حجر زاويته.
الإهانات التي تتلقاها إدارة بايدن من بنيامين نتنياهو وحكومته غير مسبوقة، كمّاً ونوعاً
هذا غيض من فيض الخدمات التي قدمتها، ولا تزال، إدارة بايدن لإسرائيل لتمكينها من المضي في جريمة إبادة قطاع غزّة وسحق سكانه، إلا أن إسرائيل لا تكتفي بالاستنكاف عن عون أميركا، ولا حتى بالمسِّ بمصالحها الجيوسياسية في المنطقة والعالم، مثل توريطها في حربٍ إقليميةٍ مفتوحة محتملة، بل إنها لا تتردّد في إهانتها وإهانة رئيسها ومسؤولي إدارته. لقيَ بلينكن، الأربعاء الماضي، من المسؤولين الإسرائيليين التعنت والعنجهية والتحقير. جاء إليهم، كما في جولته الرابعة في المنطقة، الشهر الماضي، بعد أن حطَّ رحاله في عدة عواصم عربية، محمَّلاً بالرشاوى والوعود إن قبلت تل أبيب بإبداء بعض "المرونة"، من باب ذرِّ الرماد في العيون. في كل مسألةٍ، صغُرت أم كبُرت، رمى الإسرائيليون "لا" كبيرة وثقيلة في وجه بلينكن. لا تقوّضوا السلطة الفلسطينية المتعاونة معكم. لا! لا تهاجموا مدينة رفح، التي لم يبق غيرها قائماً بعد أن حرقت إسرائيل جلَّ مدن القطاع وقراه، وفيها يتكدّس اليوم غالب المليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني. لا! اسمحوا بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية والطبية. لا! توقفوا عن القصف العشوائي وقلّلوا الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين. لا! اقبلوا بدولة فلسطينية منزوعة السلاح ومتفاوض على حدودها وطبيعتها، وبعد "تطوير وتأهيل" السلطة الفلسطينية وتطبيع العرب معكم. لا!
إهانة أميركا وتمريغ كرامتها في الوحل ديدن إسرائيلي منذ عقود طويلة، لم يسلم منه، تقريباً، رئيس ديمقراطي أو جمهوري، مهما كان حجم تواطؤه مع إسرائيل. لكن الإهانات التي تتلقاها إدارة بايدن من بنيامين نتنياهو وحكومته غير مسبوقة، كمّاً ونوعاً. قبل أيام من وصول بلينكن إلى المنطقة، كان وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، يهين بايدن شخصياً، لأنه "تجرّأ" على إعلان عقوبات أميركية بحق أربعة مستوطنين يهود في الضفة الغربية. لم يفعل بايدن ذلك محبّة بالفلسطينيين، وإنما في محاولة للتذلّل لأصوات العرب الأميركيين في ولاية ميشيغان. "بدلاً من أن يقدّم (بايدن) لنا الدعم الكامل، فهو مشغول بتقديم المساعدات الإنسانية والوقود لغزة - التي تذهب إلى حماس. لو كان ترامب في السلطة، لكان سلوك الولايات المتحدة مختلفاً تماماً"، هكذا صرح بن غفير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية الأحد الماضي. تخيّلوا أن هذه الاتهامات الإسرائيلية تُوجّه ضد رئيس أميركي احتضن إسرائيل كما لم يفعل رئيس أميركي، وهو وضع الأساطيل الحربية الأميركية في المنطقة حماية لها، وتكاد الولايات المتحدة تنزلق إلى حرب إقليمية واسعة ومفتوحة في عام انتخابي حاسم بالنسبة له. وهو قدّم، ولا يزال، كل الدعم العسكري والديبلوماسي لها، بشكل فَسَّخَ قاعدته الانتخابية ومسَّ بشكل كبير بحظوظه بالفوز بدورة رئاسية ثانية.
لا تكتفي إسرائيل وقادتها بعضِّ اليد الأميركية التي تمتد إليهم فحسب، بل وعندهم استعداد لأن يضعضعوا قوّتها ويمسّوا مصالحها
ولا ينحصر الأمر بوزراء "متطرّفين" في حكومة نتنياهو، فهذا الأخير نفسه لم يتورّع الشهر الماضي من الحطِّ من قيمة الرئيس الأميركي. وكان بايدن قد صرّح، في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، أن نتنياهو أخبره خلال مكالمة هاتفية بينهما أنه لا يعارض حلَّ الدولتين. ولكن، لم يمض يوم واحد حتى كان نتنياهو، وديوان رئاسة الوزراء، وعدد من وزرائه يصرّحون علناً أنهم لن يقبلوا بقيام دولة فلسطينية وأن إسرائيل لن تتخلى عن سيطرتها الأمنية الكاملة على الأراضي الواقعة غرب الأردن، أي الضفة الغربية. وكان الرد الأميركي تسريبات عن تصاعد مشاعر الإحباط لدى الرئيس الأميركي من رئيس الوزراء الإسرائيلي. المهزلة أن الردود الأميركية على هذه الإهانات تأتي على شكل تسريبات إعلامية من مسؤولين مجهولين في إدارة بايدن عن حجم الاستياء لدى الرئيس وإدارته من نتنياهو وحكومته، بل وكذلك تسريب عبارات قذعية أطلقها بايدن بحق نتنياهو في جلسات خاصة، والتي لا يلبث البيت الأبيض أن ينفيها.
"من يهنْ يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ"، هكذا قال المتنبّي يوماً. وهو ما ينطبق حرفياً على العلاقة الأميركية - الإسرائيلية. ما كان لإسرائيل أن تكون لولا التواطؤ الأميركي. وما كان لها أن تكون موجودة اليوم لولا الدعم ذاته. وهي ليست قادرة على الاستمرار في جريمة الإبادة في قطاع غزّة لولا وقوف بايدن وإدارته معها. ومع ذلك، لا تكتفي إسرائيل وقادتها بعضِّ اليد الأميركية التي تمتد إليهم فحسب، بل وعندهم استعداد لأن يضعضعوا قوّتها ويمسّوا مصالحها الإستراتيجية الكبرى. لن يتغيّر هذا الحال ما استمر الساسة الأميركيون في تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، وما داموا يجعلون من الوقوف الأعمى معها مادّة ابتزاز سياسي وحزبي انتخابي. أما الآن، فنحن في انتظار نتائج جولة "المتسوّل بلينكن" أخيرا.