الوجود الأميركي المعلن والمخفي في المنطقة
تمتلك الولايات المتحدة محطّة عسكرية تقطع الطريق الواصل بين العراق وسورية في منطقة التنف التي تحاذي أيضا الحدود الأردنية، والهدف المعلن هو المرابطة على مقربةٍ من الأماكن التي يُحتمل أن ينتعش فيها تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن ثمة أهداف أخرى تخص الوجود الإيراني في المنطقة، فمن شأن هذه المحطّة أن تجعل الانتقال بين العراق وسورية تحت نظر القوات الأميركية، ما قد يخفف انتقال السلاح إلى سورية من إيران عبر العراق، وتبيّن أن لهذه المحطّة نقطة إسناد ودعم أرضي داخل الأردن! وعلى بعد عشرة كيلومترات من الحدود المشتركة للدول الثلاث، والسيطرة على هذه الحدود مهم لمراقبة التحرّكات في كل الاتجاهات. يدلّ وجود نقطة الإسناد هذه على عمق الوجود الأميركي، رغم ما يُشاع عن رغبة الولايات المتحدة في مغادرة الشرق الأوسط، ففي هذه النقطة مراكز تدريب ويشغلها أكثر من 350 جندياً ينضمذون إلى ثلاثة آلاف موجودين في الأردن و2500 في العراق، وألف آخرين في سورية. لا تبدو الولايات المتحدة قادرة على مغادرة المنطقة في ظل التوتر الذي لم يغادرها أبدا، ومع التصعيد أخيراً في غزّة، وإمكانية انتقال القتال إلى أماكن مجاورة، يصبح الوجود الأميركي أساسياً لتدعيم حركة الولايات المتحدة الدبلوماسية، وتثبيت مكانتها السياسية، حيث لا يكاد وزير الخارجية، بلينكن، يغادر المنطقة ليعود إليها مجدّدا.
تعرّضت نقطة الدعم غير الشهيرة إلى الهجوم الجوي الشهير بطائرة مسيّرة أودت بحياة ثلاثة جنود من الجانب الأميركي، يبدو أنه نُفذ بطريقة مدروسة خالفت أجهزة الرقابة المتطورة لتصل إلى هدفها بنجاح. لا تمرّر الولايات المتحدة هجماتٍ كهذه بسهولة، وعادة ما تحضِّر ردودا مناسبة، وهي لم تُخفِ ذلك في دأب كل سياسي أميركي أو معلق رسمي بتكرار الحرص على الردّ وفق عدة مستويات، والذي سيشمل أهدافا إيرانية في العراق وسورية.
ولن يشكّل الهجوم الأميركي بالرد تصعيداً كبيراً، خصوصاً مع الوجود الروسي في سورية، وقد سبق أن قصفت الولايات المتحدة أهدافا في سورية العراق، ونفّذت هجماتٍ واسعة، بمساعدة شركاء، على حلفاء إيران في اليمن، ومع ذلك استمرت محادثات الهدنة بين حماس وإسرائيل عبر وسطاء من دون أن تتأثر بذلك، ما يعكس رغبة حقيقية في عدم التصعيد. ورغم أن الهجوم أخيراً استهدف قاعدة غير معلنة وعلى أرض أردنية، وحقق إصابة مباشرة في الجانب الأميركي، إلا أنه يمكن أن يقرأ من باب تسجيل النقاط الذي دأب الطرف الإيراني عليه منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، فقد كانت إيران حريصة في تأكيد عدم مسؤوليتها عن الحادث، وكرّرت ذلك عقب كل حادث مماثل، وأدرك الطرف الأميركي، الحريص على عدم توسيع الحرب، لعبةَ تسجيل النقاط، وجاء تعليق الرئيس الأميركي، بايدن، بأنه سيردّ بالطريقة والوقت المناسبين من دون أن ينجر إلى صراع مفتوح في الشرق الأسط.
قدّمت الولايات المتحدة دعما غير محدود لإسرائيل، وكانت حاسمة في تمكينها من غزّة، وشكلت غطاءً دوليا لعمليّاتها في القطاع، فسارعت بأساطيلها البحرية إلى المرابطة بالقرب من الشواطئ الإسرائيلية منعا لأي تدخّل محتمل، لتسجِّل وجوداً استثنائيا في الشرق الأوسط، يضم ما يقرب من سبعة آلاف جندي، وظهور نقطة البرج 22 التي قُتِل فيها الجنود الأميركان، يمكن أن ينبئ عن وجود قواعد أخرى مخفية للولايات المتحدة في المنطقة، بما يعني أن الوجود الأميركي لا مفرّ منه تحتّمه العلاقة مع إسرائيل، وتفرضه سلوكيات إيران وحلفائها، وتوجبه ثوابت السياسة الأميركية، وأي حديث عن مغادرةٍ أو ضعفِ اهتمامٍ ليس جدّيا، بل قد يترسّخ الوجود الأميركي ويزداد بحسب متطلّبات الصراع في غزّة أو ما قد يفتحه هذا الصراع من جبهات، وهو متوقّف على مدى اتساعها إقليميا ودوليا في الوقت ذاته.