الهويّات ذاكرة تُشعل الحروب أو الاستقرار ... عفرين نموذجاً

08 ابريل 2023

امرأة تجلس عند مدخل منزلها في عفرين شمال سورية (26/4/2018/فرانس برس)

+ الخط -

يُعدّ تراكم الذاكرة التاريخية والهويّاتية من أدوات النُخب السياسية والثقافية المهمة في أيّ دولة؛ لتمكين سيطرتها الناعمة وفرض شرعيتها عبر وقائع العدالة والمساواة، وحينها يستوجب على المجتمعات المحلية الانخراط ضمن السياسات العامة المرسومة، وتقبل الخضوع لفلسفة الحكم أو التأجيج المستمرّ لنار الصراعات والحروب الأهلية. وفقاً لذلك، لو جمعنا الانطباعات والتفكير والتوجّه العام لأهالي عفرين خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط، وطرحنا عليهم سؤالاً: كيف ترون التنوع والهويّة والوطن مع فصائل المعارضة السورية؟ فإن أجوبة الدّم وديمومة الخوف من القتل والسلبِ ستكون الإجابات المشتركة.

ثمّة سرديةٌ فاقدة للتطبيق، فأصبحت مُملة بشكلٍ فظيع، بشأن قضايا التعدّدية والتنوع والمواطنة في بلدان الشرق الأوسط، وخصوصا سورية، تتبلور في الرأي القائل "التنوع عامل قوة وليس ضعفا في المجتمعات" و"الفسيفساء السوري" و"المواطنة والوطن لنّا جميعاً". وسبب الملل والتكذيب انحسار تلك الحقائق السياسية الواجب توفرها في أيّ دولة مركبة ومؤلفة من عدة قوميات وشعوب، اختصارها على الجانب التنظيري والشفاهي لا غير، في مقابل تكرار ذهنياتٍ وممارساتٍ مجحفة، قال السوريون إنهم خرجوا في ثورتهم لإنهائها.

ببساطةٍ اغتالوا أربعة رجال من عائلة كردية، قتلاً على الهويّة وبدوافع كراهية، مع شعاراتٍ هويّاتية صلفة

ففي عفرين ثمة سحقٌ ومحقٌ للهويّة الكردية، عبر الممارسات والانتهاكات، كالتغيير الديمغرافي، وقطع عشرات الآلاف من أشجار البلوط والجوز والزيتون، خطفٌ وقتلٌ على الهويّة، إتاوات وتجريد الأهالي من أرزاقهم، تدمير المزارات الدينية للإيزيديين، وتقليص عدد ساعات تدريس اللغة الكردية، ومنع اللغة الكردية على الشاخصات وأسماء الساحات، وإزالة الصور الفلكلورية والتراث الكردي من الكتب المدرسية، ليصل بهم إلى قتل المدنيين الأبرياء بسبب إشعال شعلة النوروز. ببساطةٍ اغتالوا أربعة رجال من عائلة كردية، قتلاً على الهويّة وبدوافع كراهية، مع شعاراتٍ هويّاتية صلفة مثل "المجوس، عبدة النار، والنوروز مخالف لشرع الله". ورغم أن القتلة ينحدرون من محافظة دير الزور، فلا جواز ولا مجال لشمول كل المكوّن العربي بتلك الجريمة، وخصوصا النازحين من مختلف المحافظات السورية إلى عفرين، هرباً من الحرب. ورغم تحولها إلى قضية رأي عام، بفضل التظاهرات التي عمّت جنديرس ومختلف مناطق الكرد في سورية ووجودهم في كردستان العراق وأوروبا، والدور الإيجابي الفعال الذي لعبه الإعلام السوري البديل، ومشاركة بعض النازحين السوريين في التظاهرات، خصوصا مع خطابات التبرئة من الجريمة البشعة، لكنها ليست كافية ولا تضع حدًا للانتهاكات، ولا توفّر حمولة شعبية وسياسية واضحة لبناء هويّة سورية قوية، خصوصا وأن الظلم المنظم من تلك الفصائل المتجرّدة من كل القيم الإنسانية والأخلاقية والروابط الاجتماعية وذات الممارسات الترهيبية، تشمل قسما من العرب الوافدين للمدينة.

تراجع عميق في الوعي المجتمعي بالهويات المتعدّدة والهويّة الجامعة، مقابل صعود هويّة منغلقة على الآخر

لم تبدأ مشكلة الهويّة الكُردية في سورية مع/ ولا تتوقف على ممارسات تلك الفصائل، بل تعود إلى منشأ بنيوي مركّب ومعقد، ولا يُمكن إهمال ملامح الهويّة الاجتماعية الكردية وركائزها لمن كان يعيش في المنطقة الجغرافية مترامية الأطراف ضمن السلطنة العثمانية قبل (وعشية) تفكيكها وترسيم الحدود، خصوصا وأن تفكّك السلطنة العثمانية أدّى إلى أكبر انفجار لصراع الهويّات في تاريخ هذه البلاد، وأوجدت تاريخاً دموياً واضحاً. وبعد عقود للهيمنة الكولونيالية في تلك الفترة، تأسّست الدولة السورية، ونتج عنها نُخب سياسية غير منسجمة ومتنافرة، طفح بعضُها على حساب بعض آخر، وقُمعت الهويات القومية. لتكون الهويّة السورية التي مرّت بمراحل تاريخية بدأت مع انهيار الدولة العثمانية 1918، ثم مرحلة الثورة العربية 1916/1918 والحكم الملكي 1918/1920، وسيطرة القوات الفرنسية على البلاد 1920/1946، المرحلة الاقطاعية، تشكيل الكيان الجمهوري 1932، دستور سورية بعد الاستقلال 1950، الدستور السوري بعد 1970، الدستور الجديد 2012. وفي كل تلك المراحل، لم تتمكّن الدولة السورية من بناء هويّة واضحة المعالم للسوريين، وتعمّقت أكثر خلال الحرب السورية، وليس المجتمع الكردي بعيداً عن هذه الأزمة. علماً أن استمرار سياسة طمس وتأجيل الحقوق الهويّاتية أجّج نار الهويّات التي لا تخبو مع اشتداد المظالم والقتل والدم، بمقدار تشبثها بفعل المقاومة والمواجهة، فالسلطة السياسية منذ سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم، وهي محاصِرة ومُحرِكة لِلهويّة لأغراض الحفاظ على السلطة، وكرّرت الممارسات المجحفة بحق الهويات الفرعية في سورية، ورفض حقيقة أن المجتمع السوري يتكوّن من مجموعات عرقية وقومية (كردية - عربية - آشورية سريانية) متجانسة فيما بينها، وتفتقد ذلك التجانس على الصعيد الحكومي الرسمي، بل إن سيولة ضخمة من المراسيم والقرارات التي كانت تتمم كل واحدة ما سبقتها، تسعى جاهدة إلى نسف أيَّ أثر للهويّات القومية / الوطنية خارج إطار العروبة فحسب. وتركت هذه التراكمات أثراً واضحاً على الذاكرة والهويّة وإدارة التنوع على مستوى المكونات الاجتماعية والسياسية والإثنية والقومية على طول التاريخ السوري.

استمرّ الوضع مع اشتداد تشعب الأزمة السورية وتعقّدها، وسعي السلطة في مناطق سيطرة المعارضة السورية إلى إيجاد واقع هويّاتي جديد وصنعه. لكن الخطير أن واقع الهويّة الاجتماعية/ السياسية في الشمال الغربي يشهد هويّة التصارع البيني، من مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية، وكلها سعت إلى صناعة هويّة فاقدة أي قيم مدنية إنسانية حضارية. المؤسف والخطير تعاظم دور تلك القوى في الحياة الاجتماعية والسياسية في عفرين، وباتت وعبر حضورها المكثَّف تتحكّم بحياة الأفراد والجماعات وفعالياتهم الهويّاتية وحيواتهم وتوجهاتهم وسلوكياتهم، ما أثر بشكل عميق على قيم المجتمع المدنية، خصوصا بعد سحق الطبقة الوسطى. أثرت تلك الصراعات بشكل جوهري على وعي فئات كبيرة من المواطنين النازحين إلى تلك المناطق، في اتخاذ القرار والاصطفاف والمواقف من الآخر المختلف بهويّته الدينية والقومية والسياسية. من دون إغفال أن الصراعات المسلحة بين تلك الفصائل على محاصصة السلطة والمال والمعابر شكلت، هي الأخرى، نوعا خاصا من الانتماء الهويّاتي لها ولأفرادها.

لا ذاكرة سياسية سليمة أو ذكريات وطنية مُريحة، أو بناء تطلعات مستقبلية هادئة ومتزنة لكل السوريين، ولأهالي عفرين خصوصا

ونتيجة للخطاب المخيف والقائم على سفك الدم، والذي وظفته تلك الفصائل، رسّخت السمة البارزة للهويّة السائدة ضمن الأوساط المسلحة في عفرين التطرّف الديني والانغلاق على الآخر ضمن بيئة اجتماعية خصبة لترويج العنف ضد كل آخر مختلف. لذلك ليس غريباً ممارسة "هِواية" القتل على الهويّة وطمس الهويّات الفرعية بسبب الانتماءات القومية والسياسية. مع تراجع عميق في الوعي المجتمعي بالهويات المتعدّدة والهويّة الجامعة، مقابل صعود هويّة منغلقة على الآخر. وأمام تدفق (واستمرار) الممارسات اللاغية للهويّات الأخرى، وقفت المعارضة السورية والحكومة السورية المؤقتة موقف المتفرّج أو المكتفية بخطاب أو بيان سياسي على أبعد حدّ أمام كارثة فصائلها المسلحة وجرائمها. وفي المجمل، تؤدي تلك الفصائل أدواراً سلبية وقاتلة عبر فرض هويّة دينية أولاً، ومن دون أسس علمية أو شرعية سليمة ثانياً، ومفتقدين النُخب السياسية والفكرية والفلسفية ثالثاً، معتمدين على أشخاصٍ فاقدين مقوّمات الإدارة السياسية رابعاً.

لا تنسى الهويّات المظلومية المآسي والحروب، والأكثر استحضاراً للذكريات هي سياسات القتل العمد، فالذاكرة التاريخية أداةٌ رئيسية بيد الشعب لاتخاذ المواقف، وبيد النخب السياسية لِتعزيز سيطرتها وشرعيتها. والمؤسف أن لا ذاكرة سياسية سليمة أو ذكريات وطنية مُريحة وباعثة على التفاؤل، أو بناء تطلعات مستقبلية هادئة ومتزنة لكل السوريين، ولأهالي عفرين خصوصا، فكل الأنظمة السياسية المتعاقبة على سدّة الحكم في سورية كانت ولا تزال تسعى إلى التحكّم بهويّة الفرد، واتّضح ذلك أكثر بعد عام 2011، وعزّز هذا الموقف من مستقبل البلاد ما تقوم به الفصائل المسلحة التي يقول عنها كرد سورية إنها إرهابية بسبب ممارساتها، خصوصا وأن ممارسات فصائل المعارضة السورية، وبوصفها الفاعل الرئيس في بناء الذاكرة والهويّة الراهنة في عفرين، تمكّنت من إيجاد عقل جمعي اتسم بالعنصرية والكراهية والعنف تجاه أيّ هويّة غير عربية وغير مسلمة.