الهجرة في المتوسط بين نيات طيبة وممارسات شائنة

20 مارس 2023
+ الخط -

صدرت في الأسبوع الماضي عن عدة دول أوروبية، منها إيطاليا وفرنسا تحديدا، تصريحات هامة تتعلق بالهجرة، خصوصا بعد تكرّر حوادث غرق أودت بحياة المئات، في مناخ من التحرّش بهم في بلدان المغرب العربي، ومنها تونس على وجه الخصوص، فقد دعت رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، إلى دعم تونس في جهودها المبذولة من أجل "مكافحة الهجرة"، وهي البلد الذي يمرّ بأزمات اقتصادية وسياسية حادّة حسب قولها. ولم تنس أيضا التذكير بأن إيطاليا ظلت بمفردها تتصدّى لموجات الهجرة غير الشرعية، في ظل تخاذل بقية دول الاتحاد الأوروبي.
يجرى، في أحيان كثيرة، اختزال مسألة الهجرة في عوامل الدفع وعوامل الطرد، أي تلك المقاربة التي تركّز على الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تحفّ بدفع كل تدفقات الهجرة، سواء عند انطلاقها أو عند وصولها إلى محطات الاستقبال المؤقت أو الاستقرار النهائي. لا يتم، في أحيانٍ كثيرة، استقبال هؤلاء المهاجرين بما يليق بهم من ضيافة وحسن وفادة، ولكن المصطلحات التي تصف حالات مثالية لا تبرهن عليها الوقائع، إذ تحدُث أحيانا في دول الاستقبال إعادة ترحيل المهاجرين وطردهم وإيقافهم، ولم تخل هذه التجارب من تجاوزات حقيقية، فهي لم تنتهك حقوق المهاجرين فحسب، بل انتهكت أيضا حقوق الإنسان فيهم.
منذ عقود، لم يعد بالإمكان الحديث عن الهجرة التي ظلت ملتصقة كمفهوم بهجرة طوعية لليد العاملة بقطع النظر عن قانونيتها. ولذلك يُعتمد، منذ سنوات، مفهوم الحراك (mobility) لوصف كل التدفقات المختلطة التي تجمع بين المهاجرين وطالبي اللجوء وغيرهم من الفئات التي تضطر إلى مغادرة أوطانها، لسبب أو لآخر، بحثا عن ظروف أفضل. ولا تعني هذه الظروف بالضرورة أجرا مرتفعا ولا خدمات اجتماعية جدّية فقط، بل أيضا الأمن والطمأنينة.

نسبة المهاجرين تختبر فينا، نحن البشر، كل ذلك الرياء والنفاق بشأن مفهوم المواطنة الكونية والعيش المشترك

ويفيد تقرير المنظمة العالمية للهجرة الصادر أواخر سنة 2022 بأن نسبة المهاجرين في العالم 3% من نسبة سكان الأرض، ومع ذلك، يُثار بشأنها كل هذا الصخب والتوتر. إنها تختبر فينا، نحن البشر، كل ذلك الرياء والنفاق بشأن مفهوم المواطنة الكونية والعيش المشترك. وقد انتظمت في العقدين الأخيرين عشرات من القمم والمؤتمرات العالمية بشأن الهجرة، شارك فيها مئات من زعماء الدول والمنظمات الدولية والمانحين، ولكن لا شيء تحقق على أرض الواقع. ولعل أهم ما انتظم مؤتمر مراكش في 10 و11 ديسمبر/ كانون الأول 2018، في تزامن مع مناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وتوج بإصدار الميثاق الأممي عن الهجرة، وصادقت عليه 150 دولة، وهو يؤكّد جملة من النقاط، لعل أهمها 23 هدفا منها: الحد من الظروف السلبية التي تحول دون العيش الكريم للمهاجرين في بلدانهم الأصلية. تقليص المخاطر التي تواجه المهاجرين وهم يقطعون مسالكهم الشاقّة نحو محطات هجرتهم، عبر التنصيص على احترام حقوق الإنسان وتوفير أشكال الرعاية الضرورية لحمايتهم. إسناد (ودعم) المجتمعات والدول التي ينطلق منها المهاجرون، أو التي يعبرونها، أو التي يصلون إليها محطّة نهائية لرحلتهم، مع إدراك جملة التحولات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المركّبة وتأثيراتها المتزايدة على ارتفاع تدففات الهجرة. تهيئة الظروف التي تمكّن جميع المهاجرين من إثراء المجتمعات، من خلال قدراتهم البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ودمجهم لدفع التنمية على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية. التصدّي للدعاية المضللة ونبذ خطاب العنف والكراهية في ما يتعلق بالهجرة عموما. منع اعتقالات المهاجرين وعدم اللجوء إلى إيقافهم إلا للضرورة القصوى، وفي كنف احترام حقوق الإنسان.

صعود اليمين والشعبويات في أكثر من بلد غذّى خطاب الكراهية، وحتى العنصرية، في أكثر من بلد

مرّت على هذا المؤتمر ما يفوق أربع سنوات، ولكن المقاربة ظلت تدور في حلقة مفقودة، ولم تسجل البلدان التي حضرت أي إنجاز باتجاه تلك التوصيات الواردة. لم تعد الهجرة آمنة كما كأن يأمل المجتمعون، بل غدت أكثر من أي وقت مضى رحلة قاتلة تشهد عليها حوادث الغرق التي يسجلها المتوسط تحديدا، لأنه الفضاء البحري الأكثر عبورا لقوارب الموت. أما الظروف فقد ازدادت سوءا من خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي زادتها سوءا الكوارث الطبيعية والأوبئة (كوفيد، الزلازل، الحروب الأهلية...). كما أن صعود اليمين والشعبويات في أكثر من بلد غذّى خطاب الكراهية، وحتى العنصرية، في أكثر من بلد، ومنها تونس، البلد الذي يعبره سنويا عشرات الآلاف من مهاجري جنوب الصحراء من أجل بلوغ ضفاف المتوسط الأوروبية.
أبدت دولٌ عديدةٌ من الاتحاد الأوروبي، في الأسابيع الماضية، انزعاجها من تصاعد الخطاب المناهض للأجانب والمهاجرين، خصوصا في تونس، غير أنهم لم يبدوا أي مقترحاتٍ تخفّف من أزمتهم، وهي تراهم يرحلون. تحرص الدول الأوروبية على تحريك حدود الاتحاد الأوروبي إلى الخارج، حتى تحوّلت دول المغرب العربي إلى حدود متقدّمة له، تقوم بدور الشرطي الذي يحرس حدودها من دون راتب، أو حتى مجرّد تقدير لهذه الجهود المضنية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.