النيل حينما يسكت
أن تجلس بجوار النيل وأنت لا تحب الساسة، وتعرف الهدف من كرة القدم، ولا تعرف جيداً من يسند من الخلف قيس سعيّد ويجعله بذلك الجبروت، وتعرف أيضاً أن كلام الساسة في المؤتمرات غير كلامهم في رفع الجنيه الجمركي "أول مؤتمر من تلك المؤتمرات كان عائد الاستثمارات فيه حوالى 200 مليار بالبنط العريض". ورحم الله سمير رجب وصحافة زمان بالبنط الأحمر، وهو القائل: "سياسة السيسي أصابت كورونا بالفزع وأجبرته على الرحيل". وذلك كله يحدُث وأنت تعرف جيداً أن الطبيعة الخضراء والغنّاء في مدن رجال الأعمال مساءً، وفقاً لإعلاناتهم، غير الطبيعة في تلك البلاد التي نعيش فيها، ونتجوّل فيها كل صباح ومساء وظهيرة أمام دكاكين باعة الطعمية والفول المدمس والكشري، وأن المناظر التي يفتح فيها الممثلون والممثلات المصريات شبابيك فيلاتهم، لأخذ اللقطة الإعلانية الجديدة، غير بيوت المساكين في بلادنا، التي تطفح أسفل حوائطها المجاري طول السنة، وأن النيل جميلٌ جداً أمام نوادي القضاء وشجر الورد هناك يسبح للماء الجاري، مع أن النيل نفسه يكاد يبكي من الإهمال أمام قرى معامل الطوب الأحمر في الجيزة وبني سويف ومطاي، وأن البنت التي تدفع مصاريف الجامعة الأميركية بالدولار، سواء من فلوس المخدّرات التي توزّعها أمام النوادي ليلاً، أو من بيع الأراضي التي أخذها السيد الوالد من الحكومة بقروش، غير البنت التي تتعلّم في الجامعات المصرية، كي تحصل على وظيفة متواضعة في التعليم، أو طبيبة تموت على الأسفلت في ميكروباص، بعدما باع والدها قيراطين من "التين الشوكي" تحت الجسر، كي تتعلم، رغم أنها من المتفوّقات على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة.
وبينما الأولى تصير رئيسة لمجلس إدارة شركة بعد شهرين، أو ممثلة مشهورة، إن لم تكن صاحبة حظ، يشار إليها بالبنان، وتذهب مع الفريق القومي بالأمر المباشر إلى تونس والمغرب بالتيشيرت والعلم، و"كل برغوت على قدّ دمه"، وإن كان العطلان عن العمل من الشعب، فعليه حمل البيادة فوق أم رأسه، والرقص بها، وينسى تماماً موضوع الحساسية أمام الكاميرا، لأنه في مهمة وطنية حتى نحرّر البلاد من أنصار حسن البنا، وإن شعر بشيءٍ من الخجل أو الكسوف، فعليه العودة إلى صفوف الشعب في ميدان التحرير، ويترك رايته لآخر "وفين أيامك يا توفيق عكاشة وجماهيرك المليونية بجوار قبر الجندي المجهول؟". أما إن كان من أولاد مبارك، فلن يخاف على نفسه أبداً، لأن العيديات من الجدّ والجدّة ستحوله إلى ملياردير في بنوك سويسرا، وليس عليه سوى حمل المصحف والظهور بمظهر أهل الدين، ويضرب كل آن "بوست"، لإبراهيم عيسى، من تحت الحملات، كي تعتدل موازين الملك في طول البلاد وعرضها.
أما لو أحبّ عبد الحليم قنديل أن يتكلم في الديمقراطية وتحرير فلسطين شبراً شبراً، فما عليه سوى قناة إكسترا، ولا بد أن يجهز كيلتين من الشتائم لحسن البنا وأحفاده، ولا ينسى أبداً الـ500 جنيه من المخابرات البريطانية "التي لهفها الإخوان"، وهي التميمة المادّية الخطيرة التي ابتنى بها الإخوان أساطيل من الذهب في جزر البهاما وغيرها من الجزر المتناثرة في المحيطات، بشرط ألا يقترب من مياه النيل لا من قريب، ولا من بعيد، لأن أبي أحمد سيسلسل بالحديد قريباً من مقرّ الحكومة بأديس بابا، وقد يصير فرجةً للعامة في سوق الجمعة بالإمام الشافعي، وعلى الدعاة والأئمة ووزارة الأوقاف أن يقوموا بواجبهم الشرعي في عدم التفريط بنقطةٍ واحدةٍ من الثروة المائية، حتى وإن اضطرّ فضيلة الشيخ خالد الجندي إلى أن ينسخ لنا عدد الأحاديث والأحداث التي استغنى فيها الصحابة عن الماء الجاري في القنوات وفضلوا، احتراما للظرف الطارئ، التيمم على الوضوء، وفي جعبة الشيخ علي جمعة استشهادات كثيرة على ذلك. أما لو أراد لئيم أن يتأمل النيل ليلاً، فعليه أن يتأمل القناطر الخيرية وقناطر إسنا، ويرى المراكب وهي راكنة على شواطئ المحروسة محملةً بالجميلات والعملات من كل قطر أجنبي، علاوة على التفافهم بأعلام مصر حتى في غرف نومهم، وإن لم يكفه ذلك، فعليه أن يذهب إلى العوينات ويحدّق في ملايين الأفدنة من مزارع القمح، التي من خططنا المؤكّدة، خلال سنوات قليلة، أن نصدّر إلى أوكرانيا الفائض بعدما امتلأت الصوامع كما ذكر أحمد موسى من أسبوع. المهم أن يصلّي على الحبيب المصطفى وهو يتأمل ملايين الأفدنة من القمح، من أجل أن يطيب قلبه على رأي المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك.