النزوح أم الاستسلام للموت في غزّة
لا تتوقّف المشاهد المؤلمة عن الظهور أمامك، وأنت تتابع أخبار المحرقة في غزّة والمستمرّة منذ 11 شهراً، وأكثر ما يؤلمك مشاهد النزوح وإخلاءات البيوت التي يقوم بها السكّان الأصليون والنازحون، وفي فترات متقاربة. وربما يكون ذلك ليس لأهداف عسكرية، كما يدّعي العدو في رسائله الصوتية المسجّلة، وتلك النصّية العشوائية على هواتف المواطنين، وفي منشوراته التي يلقيها من السماء نحو بيوت النازحين البائسين وخيامهم، ولكن أحد أهداف تكرار عمليات الإخلاء والنزوح، كما تكتشف لاحقاً، إنهاك الناس ومنع استقرارهم. ولأن العدو يعرف جيداً كم هو مكلف ومرهق هذا الإجراء لأناسٍ أصبحوا لا يملكون المال ولا القوّة للتنقّل من مكان إلى مكان، أو للتنقّل من مكانهم المؤقت إلى المجهول.
أعلنت عائلاتٌ كثيرة، أخيراً، ومن خلال رسائل أخيرة لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد بلغتها أوامر النزوح بأنهم لن يتحرّكوا من أماكنهم لقلة الحيلة والاستسلام لخيار الموت، لكي تفاجئنا الصور المرعبة بعد فترة وجيزة. وبعد أن استطاع أفراد الدفاع المدني الوصول إلى تلك الأماكن، فتكتشف أن هؤلاء قد تعرّضوا للقتل مع سبق الإصرار والترصد، وكأن العدو الذي رصد بقاءهم بوسائل الكشف المتقدّمة لديه أراد ان يكونوا عبرةً لمن يعتبر، بمعنى إما أن تغادر مكانك وإما أن تموت شرّ ميتة، والمغادرة تعني أن تخرج على عجل، وتحمل القليل من متاعك، وربما لا تعثر على وسيلة مواصلاتٍ، أو لا تمتلك أجرتها المكلفة والمبالغ فيها، وحيث يستغلك أصحابها، فتسير على أقدامك بأحذيةٍ مهترئةٍ، فتأكل الأرصفة من لحم قدميْك، أنت وأطفالك، وأنت لا تعرف إلى أين ستذهب، وما وجهتك، وأي المناطق ستكون أكثر أمناً لك، والقصف يطاول كل منطقة، حتى المناطق التي تصنّف خرائط ينشرها الجيش الإسرائيلي بأنها آمنة، فالقصف يطاولها ولا يتوقّف الجنود عن تزجية وقتهم بإطلاق القذائف على أطراف خيام النازحين البائسين فيها.
يعمد العدوُّ إلى إذلال الناس بأن يُرعبهم بوسائل قتل مبتكرةٍ في كل مرّة. ولذلك من المشاهد المروّعة التي نقلها إلينا أفراد الدفاع المدني في منطقة القرارة إلى الشمال الشرقي لمدينة خان يونس جنوب القطاع مشهد زوجين شنقهما جنود الاحتلال، ثم ألقى جثتيهما فوق سطح منزلهما، وكانت الزوجة حاملاً في شهرها السابع، وهو السبب الذي منعهما من النزوح، بسبب مشقّة التنقل للزوجة التي آثرت مع زوجها البقاء في بيتهما مستسلمين لقدرهما، وهما يعرفان أن احتمالات الموت في ذلك الاستسلام أكثر من احتمالات النجاة، فيما روّعنا بخبر قصف منزل لجأ إليه قرابة العشرين فرداً من عائلة واحدة، أكبرهم الجدّة التي تناهز الثمانين من عمرها. ونظراً إلى تكرار نزوحهم وتشرّدهم والتعب الذي نال من الأطفال خصوصاً، وكذلك الجدّة المسنّة، فقد آثروا عدم الانصياع لقرار الإخلاء والبقاء في محطّتهم الأخيرة، والتي كانت فعلاً كذلك، حيث قصف الجيش الجبان البيت فوق رؤوسهم، وقتل أكثر من نصفهم، فيما استطاع البقية القفز من نافذةٍ جانبيةٍ والنجاة بمعجزة.
يصف محللون ظاهرة النزوح المتكرّر المنهكة للسكان البائسين في جانبي القطاع، المنقسمين بلعبة رومانية قديمة، يطلق عليها اسم "البراونجية"، وهي لعبة بالحصى التي يجري تحريكها مرّات في مكان ضيق، والفائز هو الذي يستطيع تكوين صفٍّ مستقيمٍ من الحصى، عمودياً كان أم رأسياً أم مائلاً. وهكذا تعاد اللعبة عدة مرّات، ليقضي اللاعبون لياليهم الصيفية في تسلية بسيطة. ولكننا في حالة النزوح التي لا تتوقّف، نرى الناس يتحرّكون ويتنقلون في مناطق ضيقة، وأحياناً على غير هدى. وفي كل مرّة، يفقدون المال والمتاع، وتخور قواهم، حتى أصبحوا أرواحاً هائمة بلا قوة. ولذلك لا يتردّد كثيرون منهم عن الاستسلام للموت في بيوتهم، لأنهم يروْن أن البقاء في بيوتهم أو هذا النزوح المذلّ وغير المنتهي، والمفتوح إلى ما لا نهاية، وجهان متشابهان للموت، بل من أقبح وجوهه التي تقتل إنسانيتهم وتحرمهم أبسط حقوقها، وهو الاستقرار والسكينة.