المواقف المتسرّعة بين المثالية والاندفاع .. فيلم "أميرة" نموذجاً
أثار فيلم "أميرة" للمخرج المصري محمد دياب، موجةً عارمة من السخط والغضب الذي أدى إلى وقف عرضه، في حين انبرت أصوات إلى رفض أي شكل من القمع والمنع، على اعتبار هذا من مظاهر استبدادية تتنافى مع قيم الحرية. بين هذا الرأي وذاك، فقدَ النقاش بوصلته الوطنية والقيمية، بين من استسهل رمي تهم التخوين مرّة، وتقديس الحرية الفردية بغض النظر عن مضمونها في أحيان أخرى، وكأن كل خطاب وفيلم تعبير عن حرية رأي، بما فيها خطاب التحريض على العنف والعنصرية والتطهير العرقي، إذ هناك فرق كبير بين خطابٍ يعالج الفكرة بفكرة، بحثاً عن سبل تحقيق الحرية الفردية والجماعية من ناحية، وخطاب عنصري بغيض، يستسهل سلب البشر حرياتهم، وربما يذهب نحو سلبهم حياتهم، استناداً على فصل البشر قسرياً، وفق منطق صوري مسبق ثابت وجامد، يقسم المجتمع أو العالم إلى أخيار وأشرار، وفق اللون والنسب ومكان الولادة والدين والهوية الجندرية أو غيرها من ناحية ثانية.
بناء عليه، لا يصح مجابهة أي خطابٍ قمعي بخطاب تحرّري صرف، فالقمع مفهوم نسبي يمكن إسقاطه على جميع تصرّفاتنا وسلوكياتنا اليومية، فنجد، بشكل أو بآخر، أنّ الأسرة مؤسسة قمعية تتكون من أب وأم وأطفال، يفرض فيها الأب والأم رؤيتهما للحياة منذ الولادة باختيارهم نوع الملابس والطعام وألوانها والألعاب والمنزل والغرف والدواء واللقاح (بما فيه رفضهم استخدامه)، وغيرها من السلوكيات اليومية التي يتم فرضها قسرا عبر سلطة أولياء الأمر. ومنها نجد السلوك القمعي نفسه في المؤسسات المهنية، إذ تفرض هذه المؤسسات، بما فيها الفكرية، شكلاً محدّداً من العمل والواجبات والبيئة المهنية بشكل قسري على الموظف والمستهلك لاحقاً عبر تحديد شكل المنتج ونوعه. وكذلك، نجد في مؤسسات الدولة، الخدمية منها والتعليمية والصحية، وبكلّ تأكيد القانونية والقضائية، سلوكاً قسرياً قمعياً، لا سيما التي تحتكر العنف، مثل جهاز الشرطة الذي يمارس قمعاً وحجزاً للحرية تجاه قسمٍ من المواطنين (بالحد الأدنى) بدافع الشك أو نتيجة فساده أو نتيجة بعض الجرائم التي ارتكبوها، من سرقة واستغلال نفوذ وفساد، وصولاً إلى القتل العمد، فهل الحرية اليوم تمرّ من خلال تجاوز كلّ تلك المؤسسات القمعية نسبياً، وهل يمكن بناء مجتمع خالٍ من جميع هذه المظاهر، ربما نتمكّن من تخفيض حجم التدخل القسري في هذه المؤسسات، غير أنّ تجاوزها كلياً مسألةٌ بعيدة المدى، إن كانت قابلةً للتطبيق كلياً أصلاً، وهو ما يعني وجود حدودٍ للحرية الفردية.
يؤكّد "أميرة" مكانة الأسرى اجتماعياً من خلال تعامل المجتمع مع عائلاتهم، ويسلّط الضوء على بعض تضحيات الزوجات والعائلات
لذا، أعتقد أنّ خطاب التمسّك بحرية التعبير في مواجهة نقد فيلم "أميرة" والحملات الداعية إلى حظره، أمرٌ غير صحيح، نظراً إلى تجاهلها الأسس التي انطلقت منها هذه الحملات، فالدفاع عن الفيلم لم يتناول أسباب رفضه شعبياً، وكأنّ جوهر النقد أمر ثانوي، وهو سلوكٌ يتناقض مع حرية التعبير، فحرية التعبير لا تعني حرية الصراخ، بل القدرة على طرح الأفكار ونقاشها من دون تدخلٍ خارجي إن كانت ملتزمة بالقيم الإنسانية. وبالتالي، محاولة تجاهل جوهر الخطاب الناقد للفيلم عبر تحويلها قضية رأي فقط، هي هروب من النقد ذاته. لذا يتطلب نقاش الموقف من الفيلم نقاش الفيلم ذاته، بعيداً عن الخطاب الطوباوي بشأن الحرية والقمع، وذلك يتطلب متابعة الفيلم ومشاهدته قبل المسارعة إلى إطلاق الأحكام هنا أو هناك، وهو ما حالفني الحظ به بمساعدة أحد الأصدقاء.
بعد مطالعة الفيلم والتدقيق في أحداثه، نلمس انطلاقه من بعض المسلّمات الإنسانية، كالحق في مقاومة الاحتلال، كما تجلّى في رفض وصم الأسرى بالإرهابيين مثلاً، وكذلك يؤكّد مكانة الأسرى اجتماعياً من خلال تعامل المجتمع مع عائلاتهم، ويسلّط الضوء على بعض تضحيات الزوجات والعائلات، والأهم أنّه يوضح الأبعاد الإنسانية الكامنة لدى الأسير، كالحبّ والرغبة في تحدّي الاحتلال والتمسّك بالحرية الوطنية والفردية، ولو كانت متجسّدة في نجاح الأسير في تحرير بعض من نطافه، وصولاً إلى سلوك الأسير (نوار) تجاه زوجته وطفلته التي غدت شابة قبل معرفة هويتها البيولوجية وبعدها، في أكثر من موقف.
الفيلم قصة متخيّلة لا تدّعي توثيق الواقع الفلسطيني أو ظروف الأسر أو حتى عمليات تهريب النطاف، لتتم محاسبته على هذا الأساس
جسّد فيلم "أميرة" الأسير نوار فدائياً ضحّى من أجل حرية وطنه، وزوجاً متفهما لحاجات زوجته، وأباً متحضّراً في تعامله الراقي والشفاف مع طفلته الشابة أميرة (وكذلك الزوجة)، حتى بعد معرفة هوية أميرة البيولوجية. كما حاول الفيلم إزالة أي شكوكٍ بشأن عائلات الأسرى عبر الرسالة النصية التي عرضها في خاتمة الفيلم التي أشارت إلى غياب المشكلة التي طرحها الفيلم في الواقع الفلسطيني، إذ أثبتت الفحوص العلمية الوراثية التي أجريت على جميع أطفال النطاف المهرّبة صحة نسبهم جميعاً. كما نصّت رسالة الفيلم الختامية على سرّية عملية نقل النطاف، فهي عملية معقدة وغير معلنة بتفاصيلها وشكلها وخطواتها ومخاطرها، وبالتالي قصة الفيلم متخيّلة بكلّ تفاصيلها من بدايته حتى نهايته، وهو ما تؤكّده أهم مفاصلها، إذ لم تضطر أيٌّ من عائلات الأسرى إلى نسب أطفال النطاف المهرّبة لوالدٍ غير الأسير كما ورد في الفيلم، بل على العكس، يصرّ الأسرى وعائلاتهم على إثبات نسب الأطفال. أولاً، من أجل انتزاع حق الزيارة. وثانياً، إعلان واضح على نجاح الأسرى في هزم منظومة الاحتلال الأمنية، عبر كسر قيود الأسر في تهريب النطاف. وكذلك يكشف الفيلم عن انفصاله عن الواقع في حبكته الرئيسية التي بنيت على فرضية تبديل النطاف في أثناء تهريبها، وهو ما يتناقض، في الواقع، مع نتائج تحليل المورثات التي يخضع لها جميع أطفال الأسرى من النّطاف المهرّبة من أجل إثبات النسب واكتساب حق الزيارة. وعليه، الفيلم قصة متخيّلة لا تدّعي توثيق الواقع الفلسطيني أو ظروف الأسر أو حتى عمليات تهريب النطاف، لتتم محاسبته على هذا الأساس، الأمر الذي يدفع إلى نقاش نقطتين مهمتين فيه، من أجل تحديد الموقف منه.
تدور النقطة الأولى حول مدى الضرر والإساءة التي تضمّنها الفيلم للأسرى وعائلاتهم وأطفالهم، وبالتحديد ما يخصّ التشكيك بنسب الأطفال، فمن ناحيةٍ سياسيةٍ لم يتضمّن الفيلم أي إساءة واضحة أو مبهمة، بل على العكس قدّم الفيلم الأسرى ومجمل المناضلين بصورة وطنية وإنسانية جيدة، كما تجنب الفيلم بث أي مظهر سلبي، حتى لو كان مؤثراً، كالانتهازية والفساد. أما اجتماعيا، فلا بدّ من التمييز بين الصورة التي نقلها الفيلم والشك أو تأثيرات سيناريو الفيلم اجتماعياً، فمن ناحية نصه وصورته، لم يحتو الفيلم على أي إساءةٍ للأسرى وعائلاتهم، فقد كانوا متريثين في التعامل مع الصدمة التي أحدثتها نتائج فحص نطاف الأسير المهرّبة، منذ لحظة معرفتهم بالنتيجة، وصولاً إلى إدراكهم تفاصيل ما حصل، بل لم يطرأ أي تغيير على تعاملهم مع ابنة الأسير "أميرة" على الرغم من الكشف عن هويتها البيولوجية، في حين عكس الخوف من المجتمع موقفهم لاحقاً وتخوّفهم منه نتيجة تشكيكه بانتماء "أميرة" السياسي والوطني، وخشية جميع أفراد العائلة (والحبيب كذلك) من نظرة المجتمع وتعامله معها، الأمر الذي دفعهم جميعهم إلى مطالبتها بالسفر وحيدة أو معه، كما في حالة الحبيب.
رسالة الفيلم ضعيفة، لجهة الفكرة والأسلوب، أي لم ينجح الفيلم نصاً وصورة في نقل فحوى رسالته للمتلقي
لناحية تبعات سيناريو الفيلم اجتماعياً، والتخوّف من تصاعد الشكوك بشأن أصل أطفال النطاف المهرّبة، فنحن بذلك نحمّل الفيلم أكثر مما يحتمل. أولاً، بحكم تأكيد الفيلم صحة نسب جميع أطفال النطاف المهرّبة وفق فحص الـ DNA. وثانياً، بحكم المبالغة في تصوير تأثير الفيلم اجتماعياً؛ أيّ فيلم كان؛ فجميعنا يعلم أنّ متابعة الأفلام والتأثر بها محدودة اجتماعياً في منطقتنا بالحد الأدنى، وإلّا لكنا اليوم نتحدّث عن مجتمعٍ قد نجح في تجاوز عقد وسلبيات عديدة يعاني منها، أقلها بما يخص الممارسات تجاه المرأة والطفل التي حاولت أفلام عديدة علاجها وتصويرها بجرأة جديرة بالاحترام.
في حين تدور النقطة الثانية التي تتطلب نقاشاً بشأن رسالة فيلم "أميرة" ذاتها بشأن سياقه الفني، وهذه تتطلب نقاشاً بين مختصين بالشؤون الفنية. لكن، ونظراً إلى تحوّل الفيلم إلى مادة رأي عام أود تقديم رأي شخصي متواضع وسريع حول فيلم "أميرة" إذ اعتقد أنّ رسالة الفيلم ضعيفة، لجهة الفكرة والأسلوب، أي لم ينجح الفيلم نصاً وصورة في نقل فحوى رسالته للمتلقي. التي ربما تتمحور بشأن طبيعة الاحتلال الشمولية، ومظاهر عدائه سكان البلد الأصليين؛ الفلسطينيين؛ عبر الأسر والحصار والحدّ من التناسل الطبيعي. وربما تهدف إلى تسليط الضوء على معاناة زوجات الأسرى مثلاً، لكنّها في الحالتين، وفي غيرهما، فشلت في تقديم دلائل داعمة، على الرغم من كثرة توفرها في الاحتمال الأول، وتعدّد أشكالها في الثانية اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً.
في المحصلة، لم يقدم "أميرة" قضية فلسطين من منظور سياسي أو اجتماعي مميز، كما لم ينجح في فضح ممارسات الاحتلال العنصرية وجرائم التطهير العرقي التي يرتكبها يومياً بحق شعب فلسطين وأرضها، لكنّ هذا لا يبرّر حظره بدوافع تخوينية، تستسهل رجم الآخر المختلف بلغته أو طريقته أو شكله بسهام التخوين والتجريم، كما حدث ويحدُث في الآونة الأخيرة، وفي أكثر من مناسبة ثقافية واجتماعية، من خلط بين سلوكيات خاطئة تماماً أو مرفوضة اجتماعياً وربما سياسياً، ومواقف أو ممارسات خارجة عن أي سياق وطني وإنساني، تنكر الحق وتقدس الجاني وترفع من مكانته، ما يصح وصفها بالمواقف الخائنة لذاتها وللحقيقة وللقيم الإنسانية قبل خيانتها مجتمعها ووطنها.