المواطنة والعدالة والمستقبل
يمكن القول إن العدالة مفهوم، بقدر ما هو مطلوب وضروري في الحياة الإنسانية، بقدر ما هو صعب على التعريف بدقة. إنّما تقترب العدالة من التحقق عندما ينتفي الجور والظلم والقهر والاستغلال والتمييز وانتقاص الحقوق. والعدالة مفهومٌ يمكن إطلاق صفة الفطرة عليه، فالإنسان بفطرته يشعر بالظلم والجور بحقه، ويبحث في هذا النقصان عن اكتمالٍ ما، كما يشعر بالعدالة عندما يتم إنصافه أو احترام حقوقه. وهي، بعكس الديمقراطية التي يلزمها وعي وتأسيس وتعزيز في ثقافة الفرد والمجتمع. لذلك، تحقيق العدالة أو التركيز على أهميتها وصونها بالنسبة للفرد والمجتمع يمكن اعتباره خطوةً تأسيسية في البناء. ولأهميتها، فإنها توزعت على عناوين فرعية عديدة تطلّبتها الحياة البشرية مع تقدّمها وتطوّرها، وصارت هناك حاجة إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتوزيعية والقضائية والانتقالية والتصالحية وغيرها من المفاهيم.
للعدالة علاقة وثيقة مع المواطنة، فبقدر ما يشعر الفرد بمكانته وقدره وأمنه، وصون حقوقه في مجتمع ما، وهذا لا يتحقّق إلّا بتوفّر العدالة، يشعر بأنه مواطنٌ في دولةٍ تحترم العقد المبرم بينه وبينها، ويصبح فردًا إيجابيًّا يمارس دوره في البناء العام، ويشعر بقيمة الحياة على الصعيد الفردي، فيعمل على جعل حياته مزدهرة مدفوعة بطاقة الأمل في نفسه. ومن البديهي القول إن الحياة لا تزهر ولا تزدهر مع اليأس، فكيف إذا تمكّن اليأس من نفوس غالبية الشعب، ودخل أفراده معًا في سن يأس جماعي؟
في هذه الأيّام التي تتوّج عقدًا من الحركات الشعبية الاحتجاجية في دول كثيرة من منطقتنا العربية، ومنها سورية نموذجا على الخراب الذي أحدثته الحرب بعد اغتصاب انتفاضة الشعب، وخنق أحلامه وتشريده، لا ينجو الفرد من استحضار الماضي وسؤاله، فالعدالة كانت تعاني منذ عقود، حتى وصلت إلى الاحتضار الكامل، وأصبح الشعور بالنقصان لدى غالبية الشعب بمختلف فئاته وشرائحه يشكل ضغطًا وألمًا كبيرين، دفعا به إلى النزول إلى الشوارع، والمطالبة بحقوقه المغتصبة، مدافعًا عن حقّه في الحياة كما يليق بإنسان يعيش في هذا العصر، فقوبل بالصدّ والعنف الذي ترقّى حتى استولد عنفًا في المقابل، والباقي بات معروفًا لأن النار لم تنطفئ بعد.
عندما تُصادر الحريات ولا يسمح بإقامة أي نشاط أو فعالية، حتى لو كان عرسًا، بدون موافقة أمنية، فهذا سلبٌ لأهم الحقوق
عندما تكمّم الأفواه، حتى في لحظة الوجع الأقصى، فهذا يحرّض الإحساس بالجور. عندما تُصادر الأصوات ويُحرم الفرد من قول كلمته في أمر عام فهذا فيه ظلم، عندما تُصادر الحريات ولا يسمح بإقامة أي نشاط أو فعالية، حتى لو كان عرسًا، بدون موافقة أمنية، فهذا سلبٌ لأهم الحقوق. عندما يعمل الفرد بكل طاقته، ولا يتلقى أجرًا يؤمّن له العيش الكريم فهذا استغلال، عندما يتقدّم إلى عمل، وتتدخل المحسوبيات والرشاوى، وتسرق منه فرصته، ففي هذا تعدٍّ على الحق. عندما يتمادى الفساد على القضاء، ويختلّ ميزان العدل فتذهب الحقوق إلى غير أصحابها فهذا فيه ظلم وانحدار وخوف من الغد. عندما تُحشر المرأة في قالب نمطي، ولا تعمل الحكومات على تعديل قوانين الأحوال الشخصية، ولا على تحسين صورتها المدنية والقانونية في مناهج التدريس، ولا تُعطى فرصها المحقّة في الوظائف، فهذا فيه تمييز واضطهاد. عندما تتكتم الحكومات على الثروات العامة، ولا توزع الخيرات بشكل عادل، يستفيد منه كل أفراد الشعب، بل يذهب معظمها إلى جيوب المتنفذين وأصحاب القرار، فهذا سرقة عامة، تمارس بحق كل فرد في المجتمع. عندما يزداد الغني غنىً والفقير فقرًا، ويصبح البون شاسعًا بين شريحةٍ بيدها الثروة وبقية الشعب الذي يشكل أدوات الإنتاج في الدولة، فهذا استغلال بشع وسرقة للجهد والحقوق معًا. عندما تقطع الألسنة بمنعها من التلفظ بلغة أصحابها، وتفرض على الجميع لغة واحدة فهذا قهر. عندما لا يستطيع المبدع أن يعبّر كما يريد، وتخضع أعماله للرقابة التي تحكم بمسطرةٍ كالمنشار، فهذا اعتداء على الكرامة ومصادرة للعقل وقتل لإمكاناته وطاقاته. عندما يكون الإنسان تحت تهديد التنمّر في الشارع والعمل، وفي كل مكان، فهذا انتهاك لكرامته، وتهديد لوجوده. عندما يفقد الإنسان الأمان في بيته وفي مدينته ووطنه، ويشعر بالغربة بين أبناء جنسه، فهذا انتهاك للأرواح. وعندما يكون هناك حزب وحيد قائد للدولة والمجتمع إلى الأبد فهذا اغتصابٌ للحق في تداول السلطة، وحق كل فرد في تمثيله ومساهمته في السياسات الداخلية والخارجية.
يمكن الحديث مطوّلًا عن النقصان في كل شيء، من أبسط متطلبات الحياة وأقل الحقوق إلى أعظمها، النقصان الذي طعن النفوس في صميمها، وجعلها تفتقد العدالة فلا تجدها، العدالة التي هي والحرية صنوان، فلا الحرية تكتمل بدونها، ولا هي تمتلئ بنفسها من دون حرية، هذا النقصان الذي راح يزداد حجمًا، وتكبر معه الفجوات الخاوية، إلّا من القهر والمعاناة، دفع الناس إلى التظاهر، مطالبين بحقوقهم الإنسانية، بعدما أدركوا، في لحظة الحقيقة، حجم النقصان الذي يكاد يقضي على جوهرهم الإنساني وحياتهم الإنسانية. إنها العدالة الغائبة، فلا العدالة البشرية كانت في متناول أيديهم، ولا عدالة السماء شملتهم برعايتها.
عندما يتمادى الفساد على القضاء، ويختلّ ميزان العدل فتذهب الحقوق إلى غير أصحابها فهذا ظلم وانحدار وخوف من الغد
هذا النقصان حدّ التلاشي والنتيجة التي خلّفتها الحرب غير المسبوقة على الشعب وأحلامه فخسروا حتى الشكل السابق لحياتهم بكل استنقاعها، جعل المستقبل مرهونًا بنوعٍ وحيدٍ من العدالة كي يستطيع أفراده أن ينهضوا بوطنٍ قابل للحياة. إنه العدالة الانتقالية، شعب لا يرنو إلى المدينة الفاضلة، بل إلى دولةٍ يمكنه العيش فيها وفق القوانين التي يضعها البشر من أجل تسيير حياتهم، إلى دستورٍ يتوافق عليه الجميع، يضمن الحقوق ويوزع المهام والواجبات، دستور يستطيع أن يمنح المواطنة لكل فرد في البلاد، ويوزّعها وفق معايير العدالة وأخلاقيتها. هذا المفهوم الذي شغل الفلاسفة والحكماء والشعراء قديمًا، وجعلته الأديان نبراسًا تستضيء النفوس به، ونادت به الدراسات والأبحاث الحديثة في ميادين الحياة، وجاهرت به الأنظمة. العدالة التي جعلها سقراط العنصر الأخير الذي يتيح للفضائل الثلاث الأخرى أن تنتعش، وتزدهر في مدينته، كي تكون صالحة: الحكمة والشجاعة والاعتدال. .. فأين منها هذه الشعوب المنكوبة التي ما برحت تفتقد العدالة بالتدريج، إلى أن آلت أوضاعها إلى هذا المصير؟ شعوب تعيش برفقة الموت، ينام ويصحو معها، لم تعد تملك من حياتها غير حلم الوصول إلى رغيف، رغيف فقط، بينما الأفق مظلم ولا يعد بانفراج قريب. الشيء الوحيد الذي بقي راسخًا في الذاكرة هو هذا الدمار والقتل والتهجير والفقر والجوع والإذلال، والرايات التي ترفرف في سماء بلادٍ لم تعد بلادًا، لن يطفئ حريق الذاكرة هذا غير الإنصاف. إنه العدالة التي هي مطلب للجميع في كل بقعةٍ من أرضٍ كانت تسمى سورية، وهي اليوم مطروحة لبازارات الصراعات والنزاعات والسياسات بقوة السلاح ومباراة القوة، لأن تقسّم وتمنح أسماء أخرى، من دون ضمانة أو وعد بعدالة قادمة.