المنسيون في مهرجانات العفو الرئاسي
احسب كم مرة أكّد فيها الجنرال عبد الفتاح السيسي وشدّد على أنه لا يوجد معتقلون وسجناء سياسيون في مصر .. كم مرّة تحدث في الخارج والداخل نافيًا بشكل قاطع أن يكون هناك معتقلون أو محبوسون بتهمة التعبير عن رأي سياسي، وأن الموجودين في الزنازين سجناء جنائيون؟
لا تعدّ ولا تحصى المناسبات التي تكلم فيها جنرال انقلاب 2013 متحدّيًا من يقولون إن المصريين يُسجنون بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية، وهي النغمة التي ردّدها إعلامه، المصنوع على عينه، على مدى تسع سنوات هي عمر هذه الفترة حالكة السواد في تاريخ مصر .. هذا الإعلام، نفسه، هو الذي ينافس بعضه بعضًا في الإعلان عما يعتبره أعدادًا ضخمة من السياسيين وأصحاب الرأي المسجونين، الذين خرجوا من السجون بقرارات عفو رئاسي من الجنرال.
حفاوة هذا الإعلام بأرقام الحاصلين على العفو، مع التركيز الشديد على أنهم من أهل السياسة والرأي، تمثل اعترافًا صريحًا بأن البلاد تحوّلت في السنوات البائسة الماضية إلى زنزانة شاسعة تضم المعارضين، مع الأخذ بالاعتبار أن مفهوم المعارضة هنا، وبحسب هذا الإعلام، هم أهل 30 يونيو (2013) الذين انحرفوا عن المسار، كما تعتقد السلطة الحالية، ومارسوا أشكالًا من التذمّر والاعتراض جعلتهم في لحظةٍ مدانين بتهمة الإرهاب.
لسان حال هذا الإعلام السعيد بقوائم الحاصلين على عفو رئاسي يكاد يقول: لدينا من الرهائن والأسرى والمحبوسين ما يكفي لصناعة مشاهد عديدة لانفراجة زائفة، فيما يخص ملف الحرّيات السياسية وحقوق الإنسان، وبذلك من حيث أرادوا التصفيق والتطبيل للنظام، فإنهم يفضحون أكاذيب هذا النظام، ويعترفون بأن أعداد المحبوسين ظلمًا تفوق طاقة السجون على الاستيعاب، مع ملاحظة أن الحديث في هذه الحالة يدور، في معظمه، عن الأسماء المشهورة، والأقل شهرة، أكثرهم من المنتسبين لأحزاب وتيارات من جماعة "30 يونيو".
أكرّر دائمًا أن خروج أي سجين رأي أو معتقل سياسي كان قد تم حبسه ظلمًا هو خبر جيد يستوجب التهنئة لكل من غادروا الزنازين عائدين إلى بيوتهم وأسرهم، عبر كل الطرق، وبمختلف الوسائل، سواء كانت عفوًا من قتلة الحريات والحقوق، اضطرّوا إليه لزوم تحسين الصورة القبيحة أمام الخارج، أو امتصاصًا لغضبٍ مكتوم في الداخل.
على الناحية الأخرى، ينبغي ألا تُنسينا بهرجة أضواء احتفالات العفو الرئاسي أولئك المأسورين منذ تسع سنوات في زنازين المجرمين، من دون أن يذكرهم أحد، وهم بالآلاف من طبقاتٍ سياسية متنوعة، منهم من كان رئيسًا لأول مجلس تشريعي منتخب بعد ثورة يناير، وهو المهندس محمد سعد الكتاتني، ومنهم من كان رئيسًا للجهاز المركزي للمحاسبات، المسؤول عن كشف الفساد في البلاد ومواجهته، المستشار هشام جنينة، ومنهم قيادات حزبية ووزراء وسفراء ومرشّحون سابقون لرئاسة الدولة، في الانتخابات الرئاسية الحقيقية، الوحيدة في تاريخ مصر، ومنهم، كذلك المنسيون الذين لا يعرفهم ولا يذكرهم أحد.
من هؤلاء المنسيين، هذا نموذج كاشفٌ لقتل قيمة العدالة في مصر، والوصول بالقمع إلى مستويات مجنونة، شاب من مواليد 1986 من أسرة بسيطة في محافظة الشرقية، تفاعل مثل ملايين غيره مع حلم الحرية في ثورة يناير 2011 بعد تخرّجه من كلية الطب البيطري بتفوق، ومن ثم اتخاذ قرار الزواج في 2010.
الشاب أسامة السيد محمد محمد، طبيب بيطري من ديرب نجم بمحافظة الشرقية جرى اعتقاله يوم 27 سبتمبر/ أيلول 2013 حين كان عمره 27 سنة، ليتم ضمّه إلى قضيتي تظاهر وانضمام لجماعة محظورة ويحكم عليه سريعًا بالسجن خمس سنوات فى القضية الأولى وثلاث سنوات في الثانية، ثم تضاف سنة سجن ثالثة بتهمة إهانة القضاء. أمضى هذا الشاب ثماني سنوات بالسجن، هي مدة العقوبة كاملة في القضيتين اللتين اتهم فيهما، في وقتٍ كان قد تقدم فيه بالنقض على حكم حبسه عامًا بتهمة إهانة القضاء، وكان من المقرّر قانونًا الإفراج عنه في 27 سبتمبر/ أيلول 2021، لكنه وجد نفسه محكومًا عليه بالسجن عامين في قضية جديدة، وهو داخل السجن، وهو الحكم الذي طعن عليه بالنقض فتم تخفيض العقوبة إلى شهرين، أمضاهما بالسجن ذاته، وكان مقرّرًا إطلاق سراحه بانتهاء مدة العقوبة، غير أنهم كانوا جاهزين بقضية جديدة بتاريخ 23 مارس/ آذار 2022 برقم 6192 بلبيس، لتبدأ من جديد حلقات مسلسل الحبس الاحتياطي وتجديده كل 15 يومًا، في عملية أوتوماتيكية لا تتوقف.
يقبع هذا الشاب في عتمة الزنزانة منذ تسع سنوات، تاركًا زوجته، ووالدته التي تعيش بمفردها، بعد أن مات والده كمدًا في أثناء وجوده في السجن، لكنه للأسف ليس من الأسماء التي تصلح لصناعة خبر عاجل، يتبعه إقامة مهرجان صاخب احتفالًا بالعفو الرئاسي من عطوفة الجنرال الزعيم الإنسان.
عشرات الآلاف من المنسيين في السجون، لا يذكرهم أو يهتم بأمرهم أحد من مطربي مهرجان العفو الرئاسي.