المناولة الأمنية إلى أين؟ .. المغرب العربي أنموذجاً

21 مايو 2021
+ الخط -

تشهد هذه الأيام (من 17 إلى 28 مايو/ أيار) مشاركة جيوش الجزائر والمغرب وتونس في تمارين عسكرية بعنوان "Phoenix Express 2021" برفقة جيوش تسع دول، تكون موجّهة للتّعامل مع الهجرة غير الشّرعية، في الوقت الذي وصلت فيه إلى إسبانيا أعداد كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين من الجزائر (مئات) ومن المغرب، سباحة (قرابة ألفين)، ما يدلّ على أن محاولة للمناولة، من الغرب، لمهمة تقوم بها دول المغرب العربي تحدّ، من خلالها، من سيول البشر التي تصل، بصفة يومية، تقريبا، إلى سواحل أوروبا، وبخاصة في شهور الصّيف التي تتحسّن فيها الأحوال الجوية.

من البديهي الاعتقاد أنّ المناولة ليست إلا جزءا يسيرا ممّا تريد أوروبا أن تقوم به دولُ المغرب العربي، بدلا منها، باعتبار، وهذا إدراك أوروبي أمني خالص، أنّها موطن تلك التّهديدات، أو أنها، بالنظر إلى أنها مناطق عبور الأفارقة إلى أوروبا، يمكنها أن تشكل السد المنيع. ولكن، ما الذي ستفيده دول المغرب العربي وشعوبها من هذه المناولة، أم أنّها مجرّد مقايضة بين أنظمة سياسية خدمةً لأجنداتٍ ليس للمواطنين، في جنوب الضفة المتوسّطية، إلا تحمّل عواقبهـا، ومنها السّياسات العامّة الفاشلة، الفساد وبقاء الاستبداد جاثما على صدورهم، من دون أدنى فرصة للفكاك منه، مستقبلا، باعتبار ذلك تكليفا من الأوروبيين لدول الضفة الجنوبية، بإنجاز مهام أمنية/ عسكرية وانعكاسات ذلك على وضع المواطن المغاربي.

تأتي هذه المناولة في إطار اتّفاقيات تعاون على مستويين أولّهما أطلسي (متوسّطي - أطلسي) والآخر جنوب متوسّطي - أوروبي (5+5، سياسة الجوار الأوروبية في مضمونها الأمني/ العسكري/ السّياسي)، بما أنّ المنخرطين من الجنوب المتوسّطي (الدول المغاربية الثّلاث) أو من الأوروبي - الأطلسي (الدُّول المشاطئة للمتوسّط في جنوب القارّة الأوروبية، وفي مقدمتها فرنسا، إسبانيا، مالطا، البرتغال وإيطاليا) هم الأعضاء أنفسهم في تداخل بين الإطارين، ولكن بالمهام الأمنية/ العسكرية نفسها، لتكون المناولة، بالنّتيجة، رسمية وتوافقية، تخدم، من المفروض، أهداف الطّرفين. ولكن، عند الخوض في خفايا الأمور والوقائع، نجد أنّ التهديدات، مع رسم الأجندات والأهداف المسطّرة أمنيا وعسكريا، تصبّ في مصلحة طرف واحد، على الأغلب وليس لكليهما، على الرّغم من الإعلانات الرّسمية والتّناول الإعلامي لتلك النّشاطات التي تشكّل نواة تلك المناولة، ومنها المناورات المذكورة.

عند الخوض في خفايا الأمور والوقائع، نجد أنّ التهديدات، مع رسم الأجندات والأهداف المسطّرة أمنيا وعسكريا، تصبّ في مصلحة طرف واحد فقط

سعيا إلى فهم أهداف تلك المناولة، نحتاج للنظر في ثلاث حقائق متّصلة بها، أولّها أنّ المناولة تفترض القيام بمهام أمنية/ عسكرية في مقابل مصالح متبادلة بين طرفي المعادلة، في حين أنّ ما يجري، في إطار هذه الحالة، هو درء مخاطر بعض التّهديدات، وفي مقدمتها الهجرة غير الشّرعية، من دون أن يتمّ التّوافق على تشخيص أسباب تلك الآفة ورسم معالم وصفة علاج تأخذ، في عين الاعتبار، كل المعطيات، خصوصا منها السّياسية والاقتصادية وتداعيات ذلك على المستوى الاجتماعي.

تفيد الحقيقة الثّانية بأنّ ثمّة إدراكا مستقطبا لتلك التّهديدات وكيفية مواجهتها، من دون أن يكون ذلك انعكاسا للواقع في جنوب المتوسّط الذي يعاني، حقّا، من إشكالات عميقة وهيكلية، وعلى الصّعد كافة. ولا يمكن للرُّؤية الأمنية، حصريا. ومن الجانب الأوروبي - الأطلسي، أن تعالج الإشكالات، بل ستبقي عليها، كما هي بل يمكن أن تعمّق منها وتحوّلها إلى قنابل مؤقّتة، إذا انفلت الأمر وخرج على نطاق التحكّم في جنوب المتوسّط (البلدان المغاربية الثلاثة).

نصل، من خلال الحقيقة الثّالثة، إلى واقع أنّ الإدراك الأوروبي - الأطلسي يرسم لنفسه أجندات، ويخطط لرؤيته مصالح وأهدافا، يريد الوصول إليها، لكن من دون أن تكون نهاية ذلك التّعاون بأفق تنسيق مستقبلي بين أطراف الجنوب المتوسّطي في القضايا الأمنية/ العسكرية نفسها التي عملت في إطار تلك المناولة على تجسيدها، ليطرح، ها هنا، ســـــــــــــــــــــؤالا: لماذا تقوم الدُّول المغاربية بذلك المجهود من دون أن تُتبعه بإحياء الإطار المغاربي، من ناحية، وهو البناء التّكاملي - الإدماجي الذّي يحفظ لها مصالحها في مواجهة القطب الأوروبي (الاتّحاد الأوروبي الذي تربطه بالدُّول المغاربية الثلاث اتفاقيات شراكة)، أو يعيد رسم معالم تلك المبادرات التعاونية على صعيدين المتوسّطي - الأوروبي والأوروبي - الأطلسي، من ناحية أخرى؟

المناولة تفترض القيام بمهام أمنية/ عسكرية في مقابل مصالح متبادلة بين طرفي المعادلة

قد تكون هناك إجابة محتملة، ولكنها تتضمّن مؤشّرات توجّه لقراءة في إدراك المغاربيين أمنهم وردود أفعالهم على المناولة، وما يقف وراءها من أهداف، وهي تلك المتّصلة بمئات بل آلاف المهاجرين الذين يصلون، يوميا، إلى شواطئ إسبانيا، بوجه خاصّ، من الجزائر والمغرب وعشرات آخرين يصلون، من تونس، إلى جنوب إيطاليا، باعتبار أنّ ذلك سياسة ضمنية رافضة طبيعة تلك المناولة، أو تلك الرّؤية لإشكاليات المغرب العربي السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية من الجانب المغاربي، مع ربط ذلك برفضها، أيضا، التّشخيص الأمني/ العسكري الحصري لمعالجة تلك الإشكالات من الجانب الأوروبي – الأطلسي، من دون التّشاور، التّعاون أو الأخذ في عين الاعتبار الرؤية المغاربية، في هذه الإشكالية وما يتّصل بها، من ناحية أخرى، من مشكلات مرتبطة بتمدّد الإرهاب نحو السّاحل والقرن الأفريقي، بضفة خاصّة.

طبعا، هذه مجرّد تخمينات، ولكن بوجود مؤشّرات تلك الجحافل من المهاجرين غير الشرعيين، والصمت شبه التام من الجهات الرسمية المغاربية لها، تعليقا وتفسيرا، يمكن استشفاف أنّ المغاربيين يتحيّنون فرص تلك الموجات من الهجرة غير الشرعية لإعادة التوازن للإدراكات مع الطرف الآخر، مع فرض أجندة للضغط، الاحتواء أو المنع، كليا، للهجرة غير الشّرعية. ولكن في مقابل حصول اعترافٍ من الأوروبيين والأطلسيين بأحقية أن يؤخذ في الاعتبار تشخيصهم إشكالاتهم أو مقاربات علاجها بعيدا عن الرؤية الأمنية/ العسكرية الحصرية لها.

يمكن اعتبار المناولة المغاربية منطلقا لعمل مغاربي مستقبلي، يفهم مقصد الأوروبيين – الأطلسيين، ويحوّلها إلى رصيد تنسيقي

على الرّغم مما تقدم، لماذا لا يتبع المغاربيون ذلك الأمني من ناحية الإدراك والردّ الضّمني على أطراف المعادلة من الجانب الآخر، للرّفع من مستوى ذلك الرد الضمني، ليصبح تنسيقا فعليا مغاربيا موازنا للفعل الأوروبي - الأطلسي مع ما يتضمّنه ذلك من إمكانية الحصول على مصالح ومكاسب تتعدّى مجرد قراءة بيان مشاركة جيوش البلدان المغاربية الثّلاثة في تلك المناورات، من دون التعليق المناسب بأن ذلك دور منوط لهم بجزء من المناولة للعمل الأمني/ العسكري الذي يخص منطقتهم، ولكن بمنطق الآخرين وبإرادتهم، وتبعا لإدراكات تحقق مصالح ومكاسب للآخرين، فقط؟

حتّى مع تلك النّقائص وربّما تلك التخمينات، لتحسين وزن ومضمون إدراك المغاربيين دورهم وقوّتهم بل ومكاسبهم، يمكن اعتبار تلك المناولة، أيضا، منطلقا لعمل مغاربي مستقبلي، يفهم مقصد الأوروبيين – الأطلسيين، ويحوّلها إلى رصيد تنسيقي أمني/ عسكري وتفاهمات، بل اتفاقاتٍ تخدم المشروع المغاربي المأمول، المتمثّل، أساسا، في دور حيوي في جنوب المتوسّط. ولم لا، انتهاء، بناء قوّة مغاربية ذات دور استراتيجي فعّال، بدلا من دور المناولة لصالح الآخرين، ومن دون أفق مكاسب، أو دور حقيقي في لعبة جيوسياسية واستراتيجية كبرى، وذات أبعاد خطيرة على غرب المتوسّط وامتداداته في المغرب العربي والمنطقة الساحلية – الصّحراوية، وصولا إلى القرن الأفريقي.

المناولة ليست إلاّ جزءا يسيرا ممّا تريد أوروبا أن تقوم به دولُ المغرب العربي، بدلا منها

الخطير في الأمر، إذا لم يستيقظ المغاربيون، ولم يتحينوا فرصة هذه المناولة الأمنية/ العسكرية، بجعلها تتمدّد وتتحول إلى مناولاتٍ أكبر وأوسع، مستقبلا، خصوصا مع تزايد وتيرة التردّي الفرنسي في منطقة السّاحل وإرادة الأميركيين استعادة دورهم. ولكن في إطار إستراتيجية فوضى خلاقة، تتضمّن تلك المناطق، ويكون للمغاربيين دور المنفّذين للمناولات، أو ضحايا محتملين لتلك الاستراتيجيات والسّياسات، وبعيدا عن أية مصالح أو مكاسب حقيقية لهم ولشعوبهم.

هناك أمر آخر متّصل بمستقبل السياسات العامّة الأخرى، الاقتصادية – السياسية - الاجتماعية، التي يُراد أن تفشل، كما فشلت مشاريع التحول نحو الدّيمقراطية، بإرادة أن تكون المنطقة الإستراتيجية (غرب المتوسّط وامتداداته في المغرب العربي والمنطقة السّاحلية – الصّحراوية، وصولا إلى القرن الأفريقي) منطقة فاشلة/ رمادية بل، وهو الأخطر، ملاذا للإرهاب والإجرام وموطنا لكل التهديدات، وفق الإدراكات الغربية، الأوروبية والأطلسية.