المقاطعة سلاح الشعوب
نعم.. ما زلنا مقاطعين كل الشركات والجهات التي تساند الكيان الصهيوني في حربه على قطاع غزّة بشكل مباشر أو غير مباشر، فبعد مرور ما يقرب من ثلاثة شهور على "طوفان الأقصى"، وما تبعه من عدوان غير مسبوق، بقي سلاح المقاطعة الوحيد الذي وجدت الشعوب المتضامنة مع القضية الفلسطينية نفسها تفعله بنجاح، ما جعل شركاتٍ كثيرة تعلن عن تضرّرها فعلا. وهو ما يثبت، مرّة أخرى، جدوى هذا السلاح المجاني الشعبي، فعندما يشعر الأفراد والمجتمعات بالاستياء والاستنكار تجاه سياسات أو أعمال غير عادلة أو قمعية، يلجأون إلى وسيلة سلمية للتعبير عن رفضهم ولفت الانتباه إلى قضيتهم، وهي المقاطعة التي تعد أداة فعالة يمكن للشعوب استخدامها للتأثير على السلوكيات والممارسات غير العادلة للأفراد أو الجهات التي يستهدفونها. إنها وسيلة سلمية مجّانية سهلة للمطالبة بالعدالة والتغيير.
وتتمثل أهمية المقاطعة في قدرتها على تعزيز الوعي وتوجيه الضوء على القضايا غير العادلة، فعندما يقاطع الأفراد والمجتمعات منتجات أو خدمات أو مؤسّسات محدّدة، يوجهون رسالة قوية تعبر عن رفضهم الممارسات أو السياسات غير العادلة التي تتبعها تلك الكيانات. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان هذه الكيانات للدعم الشعبي والأرباح المالية والسمعة الاستهلاكية، ما يُجبرها غالباً على إعادة التفكير في سياستها وممارساتها.
وتاريخيًا، هناك أمثلة عديدة على نجاح المقاطعة في تحقيق التغيير. مثلاً، كانت مقاطعة جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري إحدى أنجح تجارب المقاطعة الشعبية في تحقيق الهدف، فقد تمكّنت الحركات العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات الاقتصادية من تحقيق ضغط دولي كبير على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا آنذاك، وهو ما ساهم في إنهاء ذلك النظام الظالم، وإن بشكل غير مباشر. وهذا يشير إلى أن المقاطعة تعزّز الوحدة والتضامن بين الشعوب، بغضّ النظر عن توجهاتها العامة وانتماءاتها الثقافية والسياسية، فعندما يقاطع الناس منتجاتٍ أو خدمات تابعة لجهة معينة، يتشكّل تحالف واسع المدى، يجمع بين الأفراد والمجتمعات المؤمنة بالقضية نفسها. ويعزّز هذا التحالف الوحدة والتعاون بين الناس الذين يسعون إلى تحقيق الهدف المشترك.
ومع التطوّر التكنولوجي في العصر الحديث، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت أدوات قوية لدعم المقاطعة وتعزيزها، حيث يمكن للأفراد والمجتمعات استخدام منصّات التواصل الاجتماعي للتعبير عن رفضهم وتوجيه الانتباه إلى القضية التي يرغبون في تغييرها. كما يمكن للحملات الرقمية أن تصل إلى جمهور أوسع وتؤثر في الرأي العام بشكل كبير.
وعلى الرغم من أن المقاطعة وحدها ليست الحل النهائي لكل المشكلات، وقد تكون لها آثار جانبية في حالات معينة، إلا أنها السلاح الفعال الأمضى حالياً. ولهذا، ينبغي أن تكون جزءًا من حركة أو استراتيجية أوسع لتحقيق التغيير المطلوب. كما على الشعوب الاستمرار في مراقبة تأثيرها وتقييمها وتوفير سبل نجاحها كتقديم البدائل الممكنة والتوعية باستخدامها، حتى لا يشعر المقاطعون بالملل والضرر الشخصي مع طول المدى. وهو ما يحدُث هذه الأيام تلقائيا، ما يجعل من المقاطعة من أجل غزّة وبعد مضي ما يقرب من ثلاثة شهور على بدئها من أنجح المقاطعات في التاريخ. ليس لأنها حقّقت الهدف منه، ما زال الوقت مبكّرا للتأكد من ذلك، رغم إشارات دالّة هنا وهناك، ولكن على الأقل لأنها أوصلت رسالة قوية إلى العالم أن الشعوب المغلوبة على أمرها وغير القادرة على التعبير عن إرادتها أو إظهار تضامنها العلني مع القضية التي تؤمن بعدالتها، تستطيع أن تفعل ذلك كله بسلاح لا تستطيع أي قوة في العالم سلبه منها. وهنا تكمن الفكرة الحقيقية للمقاطعة.