المغرب والفعل الأخلاقي للدولة
تلتقط المتابعة السياسية المغربية لخطابات الملك محمد السادس أخيرا، بسهولة كبيرة، تركيز هذه الخطابات على منظومة القيم، في تسيير المحطّات الصعبة منذ فترات كوفيد، وما بعد الزلزال أو في أثناء الشروع في تغييراتٍ تستوعب روح الأزمة وتفتح الباب أمام التغيير والتجويد والتطوّر، كما في الدفاع عن تغيير المودّة أو في تجويد القانون الجنائي وتحديث غاياته، ما بين متطلبات الحداثة ومتطلبات التماسك المجتمعي.
وقد تميز خطاب العرش في يوليو/ تموز الماضي، كما خطاب الدخول البرلماني، باستعادة الأسس القيمية للدولة والمجتمع المغربيين، والتركيز عليها بتحيينها (تكييفها) ضمن السجل الخاص بضبط العلاقة داخل الدولة وبينها وبين الأفراد، وفي روابطهم هم أيضا أسرا أو جماعات سياسية أو جماعات وطنية ومدنية. فقد انتهى خطاب العرش بتوصيف حالة العالم "وما يعرفه من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل العديد من الأزمات". وركز الملك في الخلاصة على "التشبث بالجدّية، بمعناها المغربي الأصيل"، وهوما يتداوله المغاربة بعبارة "المعقول"، وهو ما يعني أيضا القطْع مع الريع أسلوب حكم، ومع المحسوبية والزبانية في "التنخيب" الإداري والارتقاء المجتمعي. وجدّد الملك ما هو في حكم الثوابت من قبيل التمسك بالقيم الدينية والوطنية وبالوحدة الوطنية والترابية للبلاد؛ وصيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك.
يحفّز الملك محمد السادس على "استمرار حياة أخلاقية عالية" للمجموعة الوطنية يشدّد على أنها متجذّرة في الوعي واللاوعي الوطنيين
كان لافتا أن ما انتهى إليه وبه خطاب العرش في يوليو/ تموز الماضي لم تمض عليه سوى أسابيع معدودة، حتى بدأ به الملك خطاب افتتاح البرلمان في الولاية التشريعية الحالية، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. تحت عنوان عريض وعميق هو "القيم المؤسّسة للهوية الوطنية الموحدة"، جاعلا في قلبها، هذه المرّة، الأسرة. ولا يعدّ الحديث عن الأسرة هنا من باب الحكم على الموجود، بل إحاطة العاهل المغربي، بما يفيد بأنه عتبة للفهم وسقف للحسم في سؤالٍ يعيشه المجتمع كإشكال هوياتي وقانوني وتاريخي، ما بين الضرورات التحديثية ومستلزمات الهوية، يخترق اليوم المجتمع المغربي وسط تشويش وتهويل كبيرين.
ومن عناصر الحسم القيمي أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين فيها يجمع بين مشروعيّات ثلاث تحملها منظومة للقيم، مشروعية تاريخية وثانية دينية وثالثة وطنية "تقدّس الأسرة والروابط العائلية"، وتعتبرها "الخلية الأساسية للمجتمع، حسب الدستور ... إذا تفكّكت يفقد المجتمع البوصلة"، ما يجعل الدولة، بعيدا عن الخوض في إعادة تعريف الأسرة على أساس منظومةٍ لا تساير هذا الحسم.
لا يزعم الملك محمد السادس إنشاء فلسفةٍ أخلاقية للدولة، وهو يتحدّث عن مركزيّتها في تعزيز الثوابت، كما في ترتيب الأولويات في المرحلة الجديدة التي أعلن عنها، بل يحفّز على "استمرار حياة أخلاقية عالية" للمجموعة الوطنية يشدّد على أنها متجذّرة في الوعي واللاوعي الوطنيين.
شكّلت القيم، كما صهرتها قرون من الوجود الجماعي، بصمة مغربية للدولة
لقد شكّلت القيم، كما صهرتها قرون من الوجود الجماعي، بصمة مغربية للدولة، وهي قيمٌ فيها ما هو "دعوي"، لو شئنا القول، من قبيل من الوفاء والإخلاص، و ما هو في حكم الفعل الأخلاقي كالجدّية، (لمْعقولْ كما يترجمها المغاربة عند ترتيب الجماليات الاخلاقية داخل دينامية العلائق) إلى ما هو في حكم التجلي الدستوري، من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة، بتفعيل القانون والمتابعة القضائية والسجن ... إلخ. وبعبارة أخرى، السجل الأخلاقي القيمي للدولة، كما يدعو إليها الملك، أصبحت ضرورة في بناء انتقالات أساسية تواجه مغربا يطمح إلى دور إقليمي، ودولي مبني على هذه المصفوفة من القيم، سواء بالدعوة إلى أخلاق المسؤولية (بمفهوم ماكس فيبر، بما هي أخلاق النجاح) أو بالتركيز على المسؤولية إزاء البشرية من خلال قيم التسامح والتعايش، والعمل على تبنّيها دوليا، كما هو حال الدفاع عن دورٍ في تبنّي الاتفاقية الدولية حول التعايش والتسامح واليوم العالمي لمحاربة العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا)، والتي استبقت الهجوم الرهيب الجاري حاليا بحوالى سنة، أن الأخلاق، هنا في لقائها مع مفهوم الدولة، تفيد، في واقع الأمر، "الجزء العقلاني من الروح"، جماعية كانت أو فردية، وأولها روح الدولة! الدولة التي تتجاوز، بهذا القدر أو ذاك، إشكالات "احتكارها العنف المشروع"، بلغة ماكس فيبر دوما، في الدفاع عن مشتركات وطنية شاملة، تنزع نحو احتكار ممارسة "إكراه معنوي"، مشروع بدوره على ترابها ومواطنيها بما يدفع نحو وجود جدع قيمي مُقتسم يسمح بكل المغامرات الإنسانية النبيلة، كما أنه يقيِّد يد الدولة وأذرعها الأخرى التي تحتكر العنف المشروع.
كما أن كيان دولة المغرب (بالنتيجة مجتمعه)، ما زال يعيش لحظته الوطنية الممتدّة، بالبحث عن استكمال وحدته الترابية (قضية الصحراء وباقي الثغور المحتلة). وهو بذلك في حاجة دائمة إلى مصفوفة القيم الوطنية وموكبها من القيم الفردية الرفيعة، كنكران الذات والروح الجماعية والتضامن، بكل ما اجتمع فيها منذ اللحظة التي نهضت الأمة للدفاع عن استقلالها في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما يجعل للفعل الوطني قيمة الفعل الأخلاقي في لحظات التعبئة الوطنية الكبرى.