المغرب... من التطبيع إلى التَّصَهْيُن

16 أكتوبر 2024

أعلام فلسطينية في احتجاج مغاربة يتظاهرون لدعم غزّة وفلسطين في الرباط (6/10/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

التطبيع في المغرب قرار رسمي منذ نهاية عام 2020، وُقّعت اتفاقاته داخل القصر الملكي، وتحت إشراف الملك محمد السادس. والاتفاقات بين الطرفَين خلال أربع سنوات، وشملت المجالات الاقتصادية والزراعية والأمنية والعسكرية والثقافة والتعليم والصحّة والإعلام، وقّعها مسؤولون مغاربة، وصدّق بعضها البرلمان. والمُطبّعون في المغرب يعلنون تطبيعهم أمام الملأ، وأحياناً كثيرةً بوقاحةٍ كبيرةٍ، يسافرون إلى إسرائيل وينشرون صورهم (السيلفي) مع المسؤولين والمجنّدين الصهاينة في استفزاز وقح، لأنّهم يعرفون أنّهم محميون من السلطات المغربية المُطبّعة، وربّما من جهاتٍ يولونها ولاءهم، ويقدّمون لها خدماتهم، فيما يتعرّض مناهضو التطبيع للقمع والتنكيل والاعتقال والمحاكمات (!)

هذا هو الواقع اليوم في المغرب، الذي يرأس ملكه لجنة القدس، وتخرج المسيّرات الشعبية في مدنه وقراه بمئات وعشرات آلاف من المتظاهرين يطالبون بإسقاط التطبيع، وإنهاء كلّ علاقة مع الكيان الصهيوني، إلى درجة أصبح معها التطبيع واقعاً، مفروضاً على الشعب المغربي، ما دام القرار صادراً من أعلى سلطة في البلاد، تحميه وترعاه، رغم احتجاج المحتجّين ورفض الرافضين، ولو كانوا مئات الآلاف، وربّما ملايين لو قدّر لهم أن يعبّروا عن رأيهم فيه بحرّية.

ينشرون الأكاذيب والأباطيل التي يردّدها الإعلام الصهيوني، ويدافعون عن سرديّته الأحداث

المشكل والخطر اليوم أكبر من التطبيع والمُطبّعين، ومن التطبيع واقعاً مفروضاً من فوق، لأنّه يتمثّل في "التَّصَهْيُن"، وهذه الظاهرة ليست جديدةً لكنّها أصبحت تأخذ زخماً كبيراً، خاصّةً في وسائل التواصل الاجتماعي، سيّما منذ بدء العدوان الوحشي على غزّة في 7 أكتوبر (2023). والمقصود إظهار الولاء للصهيونية، وإبراز الرواية الإسرائيلية للأحداث، والدفاع عن جرائمها وتبريرها، ومهاجمة من ينتقدها، وتشويه الفعّاليات المناهضة لها، والتقليل من شأن المسيرات الحاشدة في كلّ المغرب للتنديد بالمجازر الإسرائيلية، وتطالب الدولة المغربية بوقف كلّ تعاون مع الدولة العبرية.

يقوم خطاب "المُتصَهينين" المغاربة على ترويج الرواية الإسرائيلية الكاذبة أنّ الإسرائيليين مظلومون، وعدوانهم على الفلسطينيين (والآن على اللبنانيين) دفاع عن النفس لحماية وجودهم المهدّد بالفناء من جيرانهم، وأنّ الحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل هي ضدّ إيران وأذرعها في المنطقة، وليست ضدّ المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين. ولترويج هذه الدعاية الصهيونية، تنشط عدّة صفحات وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، كما تتلقى مواقع إلكترونية وإذاعات خاصّة، دعماً مباشراً من أموال دافعي الضرائب المغاربة، تردّد الدعاية نفسها وتنشرها في أوساط الرأي العام المغربي. وأصحاب هذه الصفحات والحسابات والمواقع الإلكترونية والإذاعات الخاصّة ليسوا كلهم أصحاب هُويَّات مجهولة، بل بينهم إعلاميون وكتّاب ومثقّفون وأساتذة جامعيون ومشايخ (خاصّة السلفيين)، لا يخفون تصهينهم، ينشرون الأكاذيب والأباطيل التي يردّدها الإعلام الصهيوني، ويدافعون عن سرديته الأحداث، ويُسخِّفون أعمال المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، ويرمونها بـ"الإرهاب" و"الشيعية"، ويهاجمون بأسلوب منحطٍّ وحقيرٍ كلَّ من يعارضهم، بل كلّ مظاهر مناهضة التطبيع في المغرب. وبما أنّهم يدركون أنّهم محميون ولن يطاولهم القانون، يلجؤون إلى أساليب التشهير والتجريح كلّها، وينتقون عباراتهم الساقطة من قاموس السبّ والشتم لترهيب خصومهم ودفعهم إلى الصمت والخوف.

يُروّج خطاب المُتصَهْينين في المغرب علانيةً وفي شبه تواطؤ بين الدولة وأجهزتها

خطورة هذا الخطاب الصهيوني في أنّه يُروَّج علانيةً، وفي شبه تواطؤ بين الدولة وأجهزتها، وتدافع عنه طوابير تتصدّى لكلّ من يعترض طريقه، ما يدفع إلى الشكّ في ما إذا كان الأمر يتعلّق بتوجّه رسمي غير مُعلَن، وهذا منحىً خطيرٌ وجب فضحه وتعريته، أو أنّ الاختراق الصهيوني بلغ مستوىً من التمكّن أصبح يتعذَّر معه استئصاله أو وقف اختراقه، وفي هذه الحالة، يُنذر الأمر بما هو أخطر على الدولة واستقرارها وأمنها ووحدتها. والشاهد هنا هو الملتمس الذي تقدّم به مواطنون مغاربة إلى البرلمان يطالبون فيه بتجنيس جميع أبناء اليهود المغاربة وأحفادهم الذين هاجروا إلى إسرائيل وأصبحوا إسرائيليين، وأغلب هؤلاء اليوم مجنَّدون في جيش الإحتلال الذي يرتكب جرائم الإبادة في غزّة ولبنان. وقد وصل هذا الملتمس إلى البرلمان وتجاوبت معه الحكومة ممثّلةً بالوزارة المكلّفة بالعلاقة مع البرلمان، التي أكّدت أنّها تلقّت الملتمس، وأنّها بصدد دراسة قانونيته قبل الحسم في قبول عرضه على البرلمان أو رفضه.

ومن أجل بلوغ مرحلة وضع ملتمس أمام البرلمان، ينصّ القانون على شرط وجود لائحة تضمّ تواقيع أكثر من 20 ألف شخص بأسمائهم وأرقام بطاقاتهم التعريفية الشخصية، ما يعني أنّ ثمّة أكثر من هذا العدد يؤيّدون هذا الملتمس الخطير، الذي سيفتح الباب مُشرَّعاً أمام الصهاينة من أصول مغربية لمزيد من اختراق الدولة والمجتمع المغربيين. خطورة ملتمس كهذا تكمن في عدد مؤيديه الهائل، وهو ما يكشف حجم الاختراق الذي أدّى إليه التطبيع، ومن بعده التَّصَهْيُن في أوساط المجتمع وداخل مؤسّسات الدولة، وهو بمثابة إنذار لما هو آتٍ من خطر داهم سوف ينسف الدولة ويخرّب المجتمع، فهذه هي أساليب التمكين الصهيوني التي جرّبوها في دول أقوى من المغرب، وباتوا اليوم يتحكّمون في حكّامها وساستها ومثقّفيها ومؤسّساتها وإعلامها وجيوشها وأمنها. سيكون لعدم اكتراث الدولة المغربية بالظاهرة، أو التسامح معها، أو التواطؤ معها، نتائج وخيمة، لأنّ خطاب المُتصَهْينين المغاربة الذي يُروِّج السرديةَ الصهيونية سيتسلّل إلى عقول الشباب المغاربة، ومن ثم، يُسهّل خداعَهم والتحكّمَ فيهم، وإذا لم يُوقَف هذا الخطاب ويُتصدَّى له فما هو آتٍ لا يُنبئ بخير.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).