بعد ربع قرن... "الشعب يريد أن يرحل"
فيما كان زعماء أحزاب مغربية، من بينهم رئيس الحكومة الحالية ورئيس حكومة سابق، ووزراء حاليون وسابقون، يتنابزون بأحط العبارات وأشنع الألقاب، كان مئات من الشباب المغاربة يتوجهون جماعات ومن جميع مدن المغرب وقراه نحو مدن الشمال، وبالضبط نحو شواطئ البحر الأبيض المتوسط التي تفصل اليابسة المغربية عن مدينتي سبتة ومليلية اللتين تحتلهما إسبانيا، في محاولة جماعية للهجرة إلى الجيبين الإسبانيين، باعتبارهما أول أرض أوروبية على القارّة الأفريقية تسري عليهما اتفاقيات شنغن.
جاءت الهجرة الجماعية للشباب المغربي عبر نداءات انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو الراغبين في الهجرة إلى اللقاء يوم 15 سبتمبر/ أيلول الجاري في مدينة الفنيدق، القريبة من الجيبين المغربيين المحتلين في أقصى الشمال المغربي. ورغم حملات الاعتقالات التي طاولت شباباً كثيرين روّجوا لتلك الدعوة عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يثن ذلك آلافاً منهم عن تلبيتها في يوم الحشد المعلوم ومكانه.
أغلب هؤلاء الشباب في مقتبل العمر، وبينهم قاصرون وأطفال، فتيان وفتيات، بدون تعليم، أو لم يكملوا تعليمهم، وبعضهم من خرّيجي الجامعات والمدارس العليا لكنهم بدون عمل أو تكوين، نجدهم في الأزقة والحواري والأسواق وعلى أرصفة المقاهي الشعبية، أو فقط تائهين على أوجههم، همهم الوحيد قتل الوقت بكل الأساليب والوسائل المتاحة للهروب من حياتهم اليومية القاسية، بعد أن انسدت في أوجههم كل الأبواب، وفقدوا الأمل في كل شيء، حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة البحر ملجأ أخيرا لهروبهم الجماعي من واقعهم المزري، وأمامهم الأجهزة الأمنية التي تحول بينهم وبين ما يعتبرونه حلمهم الذي لم يحقّقوه في بلادهم ومستعدين للتضحية بحياتهم من أجل بلوغه!
فشل كبير للسياسات العمومية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة على إدارة الشأن العام
إنها "ليلة الهروب الكبير"، كما سمّتها الصحافة المغربية، وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات كثيرة، وتصريحات تلقائية لشبّان فقدوا الثقة في كل شيء. وتعالت الصرخات المؤلمة لأمهاتٍ فقدن الأمل في الحاضر والمستقبل، وهنّ يودّعن فلذات أكبادهن، أو يبحثن عنهم. وهذه كلها إدانات لجميع المغاربة بدون استثناء. أما الرسائل التي حملها فعل هؤلاء الشباب اليائسين فتختزل كل الخطابات السياسية لتدقّ ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، فالخطب جلل، والمشكل عويص، والأزمة لامست القاع. ومع ذلك، لم يصدر، حتى كتابة هذه الأسطر، أي رد فعل رسمي على ما جرى، فكل الفاعلين السياسيين الرسميين، من القصر والحكومة والبرلمان والأحزاب، لاذوا بالصمت، أو انزووا في لامبالاةٍ غير مفهومة، والجواب الوحيد هو المقاربة الأمنية التي أثبتت فشلها كما في كل الأزمات السابقة، بل وأدّت إلى تعقيد المشكل، وتركت الأزمات المقموعة تتراكم تحت السطح، حتى وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم. يكفي أنه قبل هذا الهروب الجماعي الكبير نشرت وزارة الداخلية بياناتٍ رسمية عن تصدّيها للهجرة غير النظامية، وكشفت أنها نجحت في إفشال أكثر من 45 ألف محاولة هجرة غير نظامية منذ بداية العام الجاري (2024)، وهذا العدد كفيلٌ وحده بأن يقنعنا بأن المشكل لم يبدأ اليوم، وبأن المقاربة الأمنية، التي تتبناها السلطات المغربية بتشجيع وتمويل أوروبيين، ليست الحل.
تكشف هذه الظاهرة، بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية، عمق الأزمة في المغرب، وتعري حجم الفشل الكبير للسياسات العمومية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة على إدارة الشأن العام في البلد منذ الاستقلال قبل 68 سنة ونيف، لم تنجح في تقليص الفروق الاجتماعية، والقضاء على الفساد، وبناء دولة العدل ومجتمع المساواة، في بلد تقول الأرقام الرسمية الصادرة عن مؤسّساته المعتمدة إن أكثر من 330 ألف تلميذة وتلميذ يغادرون فصول الدراسة في مستوى الإعدادي، ونسبة المغاربة الذين يصلون إلى المستوى الجامعي لا تتعدّى 34%، و15% من المغاربة لم يدخلوا المدرسة. وحسب الأرقام الرسمية، ارتفعت نسبة الفقراء عام 2022 إلى أكثر من 33%، ووصلت نسبة البطالة إلى 13% عام 2024، وفي العام نفسه، أظهرت دراسة رسمية أن مليونا ونصف مليون شابة وشاب بدون دراسة وبدون تكوين وبدون عمل، أي بوجد جيش كامل من الاحتياطيين اليائسين والفاقدين الأمل المستعدين لفعل كل شيء من أجل الهروب من واقعهم المرير.
حسب الأرقام الرسمية، ارتفعت نسبة الفقراء في المغرب عام 2022 إلى أكثر من 33%، ووصلت نسبة البطالة إلى 13% عام 2024
ليس مصادفةً أن هذه الدعوة اليائسة إلى الهجرة الجماعية جاءت بعد نحو 14 سنة من الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب عام 2011، بموازاة مع ثورات "الربيع العربي"، وقدّمت خلاله السلطة الوعود إلى المحتجين، اتضح اليوم زيف وكذب كثير منها، وبدلا من الشعارات التي كان يرفعها الشباب آنذاك في الساحات، ولخصها شعار "الشعب يريد"، فإن الشعار الذي يناسب المرحلة اليوم أن الشعب الذي كان يطالب برحيل من أفقره وقمعه وجوعه هو الذي يريد أن يرحل تحت شعار "الشعب يريد الرحيل"!
ومن المفارقات أيضا أن هذه الظاهرة برزت إلى السطح أسابيع فقط بعد احتفال الملك محمد السادس بمرور ربع قرن على وجوده على قمة الحكم في المغرب. وربع قرن هو عمر جيل من المغاربة، وهو فترة كافية لبناء أسس دولة قوية، أغلب الدول القوية أو الصاعدة، من تجربة سنغافورة في آسيا إلى نموذج رواندا في أفريقيا، صَنعت معجزات اقتصادية وتنموية في المدة نفسها، لأن قادتها كانت لهم رؤية وإرادة سياسية حقيقية للتطوير بلدانهم والنهوض بشعوبهم وبالنسبة للمغرب، كان ترتيبه على مؤشر التنمية البشرية قبل ربع قرن، أي عام 1999، هو 112، وفي ترتيب هذا المؤشر العالمي الصادر عام 2024 احتل المغرب المركز رقم 121. وأعتقد أن المقارنة بين الرقمين تلخص ربع قرن ضائعا من الزمن المغربي في مجالاتٍ مهمّة، مثل التعليم والصحة ومحاربة الهشاشة الاجتماعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتصدّي للفساد الذي أصبح بنيويا يخترق الدولة أفقيا وعموديا. أما في مجال الحريات، فالتراجع الذي شهده المغرب خلال ربع قرن بسبب القمع أدّى إلى تقوية أجهزة الضبط إلى درجة أصبحنا نتحدث فيها عن وجود دولة بوليسية وبنية سرية تتحكم في دواليب الدولة وأجهزتها، غير خاضعة لأية محاسبة أو مراقبة.
لا شيء، في عصر تكنولوجيا الاتصالات الرقمية المتطورة، يضمن أن لا يثور "المواطن المستقر" ذات يوم
ما زالت أمام الملك محمد السادس الفرصة كي لا يخطئ موعده مع التاريخ، وأن يسجل اسمه ملكا عظيما لدولة قوية اسمُها المغرب، فما تحتاجه صناعة المستقبل هي الإرادة السياسية الحقيقية لدمقرطة البلد، والنهوض بالمجتمع وتنمية الإنسان، وعندما تتوفّر مثل هذه الإرادة عند صاحب القرار المغربي الأول، يمكن الحديث عن مستقبل آخر لمغربٍ لا يهرُب منه شبابه.
عندما توفي الملك الحسن الثاني، أجرت صحيفة مغربية حوارا مع الصحافي الفرنسي الراحل، جان دانييل، مدير أسبوعية "لونوفيل أوبسرفاتور" ومؤسّسها، وكان صديقا قريبا من الحسن الثاني، وسألته عن سلبيات عهد صديقه، فأجاب بدون تردّد أن الملك الراحل، بالرغم من كل الحنكة السياسية التي كانت تروى عنه، أهمل تعليم شعبه، وكشف أنه سأله مرة عن السبب، فأجابه الملك مستنكرا: "هل تريدني أن أٌكوِّن مناضلين ينضمون إلى صفوف معارضة حكمي؟ّ". فالحسن الثاني كان يرى في كل متعلم مشروع معارض لحكمه في زمن كان اليسار هو الذي يقود المعارضة التي كانت بعض تياراتها تريد إطاحة النظام، أو على الأقل لا تعترف به أو تشكك في شرعيته، لكن في عهد خلفه محمد السادس، لا شيء يبرّر الإهمال الذي طاول الاهتمام بالتعليم وتنمية وتكوين الإنسان، اللهم إلا إذا كانت تلك إرادة سياسية غير معبّر عنها، لإعادة إنتاج"المواطن المستقر" نفسه، بالمواصفات التي تحدث عنها الكاتب الفرنسي إيتيان دو لا بويسي في كتابه "العبودية المختارة". ولكن لا شيء، في عصر تكنولوجيا الاتصالات الرقمية المتطورة، يضمن أن لا يثور "المواطن المستقر" ذات يوم ويكسر أغلال عبوديته التي فُرض عليه اختيارها بواسطة مناهج تعليم ووسائل إعلام وبرامج سياسية ومؤسّسات ريعية وأجهزة قمعية وُضعت كلها في خدمة "استقرار الحكم"، وليس من أجل توعية الإنسان وتنميته وحمايته.