المغرب - فرنسا... علاقة حب مجوسية

05 أكتوبر 2022
+ الخط -

تمرّ العلاقات المغربية الفرنسية منذ فترة غير قصيرة بأزمة لم تعد صامتة، أصبحت تعلن عن نفسها بمواقف تأتي من باريس أو الرباط لتزيد في توتر العلاقات بين البلدين اللذين ظلت تربطهما علاقات تاريخية وودية للغاية منذ استقلال المغرب عن فرنسا قبل زهاء ستة عقود ونصف العقد. لكن اليوم يكاد لا يوجد أي شيء يسير على ما يرام بينهما، ولا حل يبدو في أفق علاقات تزداد كل يوم تأزّما لأسباب معلنة وأخرى غير معروفة، يعتقد أنها هي التي تزيد من ديمومة هذا الجفاء بين صديقين حليفين تقليديين.

الأسباب المعلنة لهذه الأزمة، أو على الأقل تاريخ الإعلان عنها رسميا، بدأ مع إعلان الحكومة الفرنسية قبل عام تقريبا تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني المغرب والجزائر وتونس، بدعوى رفض الدول الثلاث استعادة مهاجرين غير قانونيين من مواطنيها. وقبل ذلك، أدّى اتهام صحف فرنسية المغرب باختراق هواتف مسؤولين فرنسيين كبار، بما فيها هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى توتر العلاقة بين البلدين، رغم أن المغرب الرسمي ظل ينفي تورّطه في تلك القضية، إلا أن الرباط وباريس منذ الإعلان عنها أوقفتا تبادل الزيارات الدبلوماسية بينهما.

وإلى جانب هذه الأسباب المعلنة رسميا، ثمّة أسباب محتملة لهذا البرود الذي تشهده علاقات البلدين، يوردها المراقبون من الجانب المغربي، لتفسير الأزمة الحالية أو تبريرها عندما يعزونها إلى عدة أسباب سياسية واقتصادية ودبلوماسية. وفي الجانب السياسي، يثار موقف فرنسا من قضية الصحراء، على اعتبار أن موقف باريس غير واضح من هذه القضية التي يعتبرها المغرب في جوهر عقيدته الدبلوماسية، وكان لافتا للانتباه تفادي الملك محمد السادس في خطابه في أغسطس/ آب الماضي، ذكر فرنسا ضمن الدول التي وصفها بالصديقة والحليفة التي تدعم موقف المغرب في هذه القضية التي اعتبر أن الموقف منها هو المعيار الذي يقيس به المغرب "صدق الصداقات ونجاعة الشراكات" مع الدول الأخرى، وخصوصا مع شركائه التقليديين. وكانت الإشارة هنا واضحة إلى فرنسا التي دعاها الملك، ضمن دول أخرى، لم يذكرها بالاسم، إلى توضيح موقفها من هذا الملف. لكن المعروف أن موقف فرنسا من قضية الصحراء لم يتغير منذ اندلع هذا النزاع، وبالرغم من أن باريس لا تعترف بسيادة المغرب على هذا الإقليم، إلا أنها لا تُخفي دعمها الموقف المغربي، خصوصا داخل مجلس الأمن، حيث تقف فرنسا دائما مناصرة موقف المغرب ومدافعة عنه. وبالتالي، ليس موقف باريس من قضية الصحراء هو ما فجر هذه الأزمة بين البلدين، وإنما يدخل في إطار تبريرها وربما تأجيجها.

ليس موقف باريس من قضية الصحراء هو ما فجر الأزمة مع المغرب، وإنما يدخل في إطار تبريرها وربما تأجيجها

وبسبب انعدام التواصل الدبلوماسي بين العاصمتين، على الأقل على مستوى تبادل الزيارات، احتلت لغة الإشارة حيزا كبيرا في تحليل بعض المواقف والقرارات وتفسيرها، وهكذا قرأت الرباط زيارة الرئيس ماكرون إلى الجزائر خلال الصيف الماضي بمثابة استفزاز وابتزاز لها، وأدّت تلك الزيارة إلى تأجيج المشاعر المعادية لفرنسا لدى روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، ما دفع الرئيس الفرنسي إلى الإعلان بطريقة غير رسمية عن زيارة مرتقبة له إلى المغرب في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، لكن لم يصدر رسميا أي تأكيد لهذه الزيارة سواء من باريس أو في الرباط.

يُضاف إلى هذين السببين السياسي والدبلوماسي سبب ثالث ذو طبيعة اقتصادية يفسّر به أصحابه توتر العلاقات بين البلدين، ويتمثل في ما يصفونه بالمنافسة الاقتصادية المغربية للنفوذ الاقتصادي الفرنسي في دول جنوب الصحراء، لكن بالنظر إلى حجم المبادلات الفرنسية مع هذه الدول، ونفوذها التاريخي والتقليدي داخلها، بالمقارنة مع بعض الاستثمارات المغربية التي بدأت قبل ثماني سنوات تقريبا في بعض هذه الدول، يصعُب الحديث عن وجود منافسة مغربية مزعجة للتغلغل الفرنسي في اقتصاد هذه الدول وسياساتها، والذي يمتد عقودا طويلة.

لن تكون الأزمة الحالية أشدّ من سابقاتها، وستنتهي مثلما تم احتواء أخرى أشد منها وأقوى

لذلك تبقى هناك أسباب أخرى غير معلنة وغير معروفة هي التي تتحكّم في دينامية هذه الأزمة، التي يمكن أن نجد لها بدايتها عام 2014 عندما نُشرت تصريحات نسبت إلى سفير فرنسي سابق لدى الأمم المتحدة وصف فيها المغرب بأنه "عشيقة ننام معها كل ليلة من دون أن نكون مولعين بها حقا، لكن يجب الدفاع عنها". وقبل احتواء الأزمة التي أثارتها هذه التصريحات المستفزّة، اندلعت أزمة أخرى أكثر حدة بين البلدين، عندما أرسل القضاء الفرنسي في طلب مدير المخابرات المغربية خلال وجوده في باريس للاستماع إليه في قضية دعاوى تعذيب رفعها ضده رعايا مغاربة بفرنسا، وأعقب ذلك توجيه القضاء الفرنسي إبلاغا رسميا للسلطات المغربية بملاحقة المسؤول الأول الأمني في المغرب قضائيا في باريس، وأدّت هذه القضية إلى تعليق الرباط تعاونها القضائي مع باريس واستدعاء السفير الفرنسي عندها للتشاور، ثم سرعان ما جرى تجاوز تلك الأزمة، عند التوقيع على اتفاقية قضائية بين البلدين، تمنح نوعا من الحصانة للمسؤولين المغاربة ضد الدعاوى التي تُرفع ضدهم في باريس في أثناء مزاولتهم مهامهم.

وبالرغم من الاحتواء الظاهر لهذه الصدمات بين العاصمتين، إلا أن منسوب الثقة بينهما تراجع، خصوصا على مستوى التعاون والتنسيق في المجالات ذات الطبيعة الحسّاسة، ومع انتخاب الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون أول مرة عام 2017، دخلت العلاقات بين البلدين منعطفا جديدا تميز ببرودتها على أعلى مستوى في هرم الدولتين، وبدا منذ بداية العهدة الأولى للرئيس الفرنسي أن ثمّة شيئاً ما ينقص في كيمياء العلاقات التي ظلت دائما تربط القصر الملكي في الرباط بقصر الإليزيه في باريس. وهذه الكيمياء هي العنصر المفقود أو المادة الغامضة التي يجب البحث فيها عن الأسباب العميقة للأزمة الحالية بين البلدين، والتي قد تستمر حتى نهاية عهدة ماكرون الثانية.

علاقة يتداخل فيها السياسي مع الأمني والدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي والنفسي والإنساني

ومهما طالت هذه الأزمة، فإنها ستنتهي كما انتهت سابقاتها التي هزّت العلاقات والثقة بين البلدين منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما قرّرت سلطات الاستعمار الفرنسي نفي سلطان المغرب محمد الخامس، جدّ الملك الحالي، وتنصيب ملك بديل له، وجاءت بعدها أزمة اختطاف المعارض المغربي المهدي بنبركة على التراب الفرنسي عام 1965، بتواطؤ بين أجهزة أمنية مغربية وفرنسية، واغتياله وإخفاء جثته، لتُحدِث شرخا كبيرا في علاقات البلدين، تلتها أزمة استدعاء مدير المخابرات المغربية الحالي للمثول أمام القضاء الفرنسي عام 2014، والتي شكلت أكبر اختبار لهذه العلاقات. لذلك لن تكون الأزمة الحالية أشدّ من سابقاتها، وستنتهي مثلما تم احتواء أخرى أشد منها وأقوى.

ولمن يعرف عمق العلاقات المغربية الفرنسية وطبيعتها فهي متداخلة ومعقدة وملتبسة. وفي عزّ احتدام الأزمة الحالية، فإن مغاربة كثيرين، وفي مقدمتهم كبار المسؤولين، بمن فيهم الملك وأفراد الأسرة الملكية، يفضلون فرنسا وجهة لزياراتهم الخارجية، فالعلاقة بين البلدين يصعب فهمها أو تفسيرها يتداخل فيها السياسي مع الأمني والدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي والنفسي والإنساني، ولا يمكن فصل كل هذه الأبعاد عن بعضها البعض أو هيمنة بعد واحد على الأبعاد الأخرى لتحديد شكل هذه العلاقة التي تشبه علاقة حب مجوسية ومستقبلها.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).