المغاربة الذين فُرض عليهم التطبيع
ما يجري اليوم على أرض فلسطين التاريخية المحتلة من جرائم بشعة ترتكبها عصابات المستوطنين الصهاينة، وخصوصاً ما شهدته بلدة حوّارة قرب نابلس، يعود بذاكرة الفلسطينيين إلى الأيام والليالي السوداء التي عاشوها في زمن النكبة الكبرى عام 1948، عندما كانت عصابات الهاغاناه الصهيونية وأخواتها من عصابات القتل العنصري المحمية من قوات الاحتلال البريطاني تغير عليهم ليلاً، تحرق البيوت وتُقطّع الأشجار وتقتل الرجال وتهجّر النساء والأطفال والشيوخ وتبقر بطون الماشية، وتزرع الرعب والهلع في النفوس، حتى لا يفكر الفلسطيني في العودة إلى قريته. تكرّر السيناريو ليلة الأحد الماضي، عندما هاجمت قطعان من المستوطنين المحميين من جيش الاحتلال حوّارة، وأضرموا النيران في البيوت والسيارات، وروّعوا سكان البلدة الهادئة (سبعة آلاف نسمة)، وقتلوا شاباً فلسطينياً وجرحوا العشرات. كانت ليلة عصيبة تُضاف إلى السجل اللامتناهي من جرائم أطول وأبشع احتلال عرفه التاريخ المعاصر.
يرقى ما جرى في حوّارة إلى جرائم ضد الإنسانية هدفها الإبادة، وهو بكل المقاييس جريمة دولة، لأن المهاجمين كانوا محميين من جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يُلقي قنابل الغاز المسيل للدموع على الفلسطينيين الذين خرجوا للدفاع عن حرمة بيوتهم، بعدما باغتهم الهجوم في هزيع الليل، وهي جريمة دولة، لأن الحكومة اليمينية المتطرّفة هي التي توفر الغطاء السياسي والإيديولوجي والديني لمثل هذه الجرائم التي تظلّ خارج كل عقاب أو محاسبة. فهؤلاء المهاجمون لم يفعلوا سوى ترجمة التصريحات العنصرية والفاشية لوزير الأمن في الحكومة الصهيونية المتطرّفة، إيتمار بن غفير، الذي يتوعّد بطرد الفلسطينيين من كل أرض فلسطين التاريخية المحتلة ومن الضفة الغربية وتوزيعهم على الدول العربية ليعيشوا لاجئين إلى الأبد، وهو بذلك يذكّر بما حدث زمن النكبة قبل نحو 75 عاماً، بل ويريد تكراره اليوم أمام العالم، لأنه يدرك أن جرائمه لن يطاولها عقاب، ولن يجد من يصفه بالإرهابي أو العنصري سوى الضحية الذي يوغل كل يوم في قتله، حتى لا يبقى شاهداً أو محتجّاً على أفعاله الإجرامية.
التطبيع، مهما طال، سيبقى مداناً سياسياً وأخلاقياً ودينياً إلى يوم الدين
وفي وقتٍ التزمت فيه أغلب العواصم العربية الصمت، خصوصاً عواصم التطبيع التي برّرت فعلتها بحماية المدنيين الفلسطينيين، جاءت ردود الأفعال من العواصم الغربية مستفزّة، انطلاقاً من واشنطن التي وصفت جرائم المستوطنين بأعمال العنف "العشوائية"، وكأن الأمر يتعلق بأعمال شغبٍ أعقبت مباراة في كرة البيسبول، إلى ألمانيا التي دعت إلى تهدئة الوضع، في حين أن الأمر يتعلق باعتداء إجرامي على سكّان قرية كانوا آمنين في بيوتهم، حتى هاجمتهم عصابات المستوطنين المجرمين. أما باريس، فاكتفت بالتعبير عن قلقها مما جرى، ودعت جيش الاحتلال الذي كان يحمي المستوطنين الغزاة إلى احتواء الوضع وحماية الفلسطينيين ومحاكمة أصحاب الأفعال الإجرامية. والحذو نفسه اتخذته ألمانيا التي وصفت الأفعال الإجرامية بـ"الأعمال غير المقبولة"، وطالبت بتجنب التصعيد، وكأن الأمر يتعلق بمواجهة بين خصمين متوازنين من حيث القوة والعتاد والحماية!
لقد سقط القناع عن الوجه البشع للاحتلال الصهيوني منذ بداية النكبة، ومع الجرائم التي تشهدها فلسطين المحتلة كل يوم يتكشّف جلياً الوجه البشع والمخيف للنظام الفاشيّ والإجرامي الحالي، وكل سكوتٍ عن جرائمه هو بمثابة التواطؤ معه. أما التطبيع معه، وعقد الصفقات واستقبال رموزه، فكلها أفعالٌ ترقى إلى جرائم إهانة في حق الشعوب التي فرض عليها التطبيع من الخليج إلى المغرب. والمغاربة من بين هذه الشعوب التي فُرض عليها التطبيع. فأغلب القوى الحيّة في البلاد ترفضه، وحتى الحزب الإسلامي الذي وقّع زعيمه اتفاقات التطبيع المشؤومة، وبرّرت قيادته فعلته الشنيعة بمصلحة الدولة، أصبح منذ أن لفظه النظام بعدما استنفد صلاحيته، يجهر بمعارضته التطبيع ومهاجمته. أما أغلب شرائح الشعب المغربي، وخصوصاً من المغلوب على أمرهم من المقهورين والخائفين من بطش النظام بهم، فهم أبرياء من هذا التطبيع، ولو أتيحت لهم الفرصة والحرية للتظاهر ضده لملأوا الشوارع بالملايين، كما تعودوا أن يفعلوا في مسيرات التضامن مع الشعب الفلسطيني، عندما كان هامش الحرية والتظاهر أوسع في المغرب سنواتٍ قبل أن يجهز النظام على كل منافذ الحرية وساحات التظاهر.
تكرار إعلان المغرب الرسمي، في كل مناسبة، مساندة الشعب الفلسطيني لا يستقيم أخلاقياً مع التحالف مع الكيان الغاصب
ولم يكن مستغرباً أن يأتي رد فعل الحكومة المغربية، التي طبّعت مع الكيان الصهيوني، في مستوى أقلّ مما يمكن تصوّره عندما وصف بيان خارجية المغرب الأفعال الإجرامية ضد مواطنين أبرياء وعزّل بأنها مجرد "أعمال استفزازية"!. ليس مطلوباً من المغرب، الدولة والحكومة، أن تحل محلّ الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم، أو تحمل السلاح مكانهم لمقاومة الاحتلال، ولكن من الناحية الأخلاقية، إن تكرار إعلان المغرب الرسمي، في كل مناسبة، مساندة الشعب الفلسطيني لا يستقيم أخلاقياً مع التحالف مع الكيان الغاصب للأرض والإنسان. أمام الدم الفلسطيني المراق يومياً، وأمام بشاعة أفعال المستوطنين التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، وفي وجود حكومة صهيونية فاشية متطرّفة دينية يتفاخر أعضاؤها بقتل الفلسطينيين، ويتوعدون بطردهم من آخر شبر من أرضهم التاريخية، وبتعذيب أسراهم وإعدام مقاوميهم، لا شيء يبرّر التطبيع مع كيان عنصري فاشي إجرامي، فهذا التطبيع، مهما طال، سيبقى مداناً سياسياً وأخلاقياً ودينياً إلى يوم الدين.
في السنوات الأخيرة، ومع انحسار العمل السياسي والنقابي في المغرب، اجترحت الحركات النضالية في المغرب مصطلحاتٍ جديدة لتنظيم احتجاجاتها ورفع مطالبها في وجه السلطة. وهكذا خرجت تنسيقياتٌ قطاعية يناضل أعضاؤها من أجل مطالبهم الفئوية، وكان من أبرزها وأكثرها عدداً تنسيقيات الأساتذة الذين فُرض عليهم التقاعد، وهي كما يشير إليها اسمُها تضم حركة المعلمين الذين فرضت عليهم الدولة شروطاً مجحفة للتعاقد مقابل أجور هزيلة وحقوق هشّة، وباتت كل فئة أو شريحة مجتمعية تريد الاحتجاج، في زمن الخوف الذي تفرضه المقاربة الأمنية على الدولة والمجتمع، تشير إلى الظلم الذي تريد أن ترفعه عنها، لكونه مفروضاً عليها، مستعملة الفعل نفسه المبني للمجهول، للإشارة إلى السلطة الأعلى منها التي تفرض عليها الأمر الواقع. ولو كُتب لحركة المغاربة الذين فرضت عليهم حكومتهم التطبيع مع الكيان الصهيوني، لانضوت تحت صفّها كل القوى الحية في البلاد، بالرغم من أن الأمر لا يحتاج إلى تأسيس تنظيم (أو حركة) كهذا، لأن أغلب المغاربة يشعرون بأن التطبيع فُرض عليهم، وكل ما هو مفروض سيبقى مرفوضاً، وسيأتي اليوم الذي سيصبح فيه ملفوظاً، وليس ذلك ببعيد.